تشريعات جديدة للرقابة على الأسعار: نحو إدارة فاعلة للأسواق -
ونحن على أبواب شهر رمضان المبارك، وفي خطوة إيجابية للحد من تغول الأسواق الحرة على المستهلك غير المنظم ومحدود الدخل، تبنت الحكومة خلال الشهور القليلة الماضية إجراءات تشريعية جديدة للرقابة على أسواق السلع والخدمات وعلى أسعارها، هي:
(1) عدم جواز رفع الرسوم الدراسية من قبل إدارات المدارس بأكثر من (5 %) سنوياً ووفق مبررات توافق عليها وزارة التربية والتعليم، وما يعنيه ذلك من وضع سقف أو حد أعلى لنسبة الزيادة السنوية في الأقساط الدراسية.
(2) إعطاء صلاحيات لمجلس الوزراء بتحديد أسعار ليس فقط “المواد الأساسية” كما كان القانون السابق وإنما أيضاً “أي سلعة أخرى يراها ضرورية”، الى جانب تبني تعديلات قانونية أخرى تؤكد مصلحة المستهلك في عملية الرقابة الحكومية على الأسواق الحرة، بما في ذلك اعتبار موظفي وزارة الصناعة والتجارة المفوضين من الوزير من رجال الضابطة العدلية أثناء قيام أي منهم بمراقبة الأسواق.
الإجراء الأول تم ضمن نظام تأسيس وترخيص المؤسسات التعليمية الخاصة والأجنبية لسنة 2015 الذي تنفذه وزارة التربية والتعليم، والإجراء الثاني تم إقراره ونشره في الجريدة الرسمية في تعديل لقانون الصناعة والتجارة.
وهذه التدابير الجديدة -ولو أنها جاءت متأخرة- ستسهم مع غيرها من التدابير المأمولة في الحد من انفلات أسعار السلع والخدمات الاستهلاكية، مما يخفف من عبء التصاعد غير المنضبط في أسعار سلة المستهلك الأردني. كما ستدعم ما أُقر في العام 2012 في إطار قانون المنافسة من تعليمات للحد من المغالاة في الأسعار.
لكن النتائج الإجمالية ستظل محكومة بدرجة التنفيذ والمتابعة والتقييم من قبل الوزارتين المعنيتين، وفي الإجراءات الإضافية المصاحبة، كإقرار قانون حماية المستهلك وتحويل مديرية المنافسة في وزارة الصناعة والتجارة والتموين الى هيئة مستقلة للمنافسة تتمتع بالموارد البشرية والمالية اللازمة لتفعيل قانون المنافسة الريادي.
ولا يقولن قائل متمسك بـ”أصولية السوق” بأن مثل هذه الإجراءات الحكومية المنظمة للأسواق تتنافى وفلسفة اقتصاد السوق والمبادرات الفردية. بل أقول إن الكثير منها تدابير معمول بها في الاقتصادات المختلطة الغربية، إما لاعتبارات تحقيق الكفاءة أو العدالة الاقتصادية أو الاثنين معاً.
ولعل سياسة المنافسة من ناحية والسياسة الصناعية الداعمة لأنشطة البحث والتطوير والزراعة من ناحية أخرى، هي أمثلة عملية. كما أن سياسات الرقابة على الأسواق يمكن أن تكون داعمة لكفاءة الأسواق الحرة وتعالج إخفاقاً وتشوهات في هذه الأسواق. وأهم من ذلك وتلك، دعوني أذكّر متعصبي السوق الحر بالماضي القريب.
فقد أثرت التداعيات الماثلة والممتدة للأزمة المالية والاقتصادية العالمية 2008 في الفكر الاقتصادي تأثيراً ملموساً، ليعود سؤال المليار دينار يقرع من جديد: أيهما أفضل السوق أم الدولة في تخصيص الموارد وتوزيع الدخول؟ ومن أبرز معالم هذا التغيير الفكري انتعاش الاهتمام بموضوع الرقابة على الأسواق الحرة، أكانت أسواقاً مالية أو غير مالية، أو ما يعرف فنياً بمصطلح “حوكمة الأسواق”.
تنظيم الأسواق الحرة والسياسة الصناعية ليس موضوعاً جديداً، بل كان هو الأصل في فترة الخمسينيات من القرن الماضي، مدفوعاً بتداعيات ما يعرف بالكساد العظيم وبالحرب العالمية الثانية، لكن تحول موقف السياسات الاقتصادية منذ السبعينيات الى الأفكار الليبرالية الجديدة كالخصخصة وإزالة القيود التنظيمية وتحرير التجارة والأسواق والأسعار قد خفف من التوجه المركزي نحو ضبط الأسواق وتوجيهها والإشراف عليها. فكانت النتيجة هي الأزمة المالية العالمية الراهنة على المستوى الدولي، ومزيد من الفقر والتهميش وعدم تكافؤ الفرص على المستوى الإقليمي، مما أسهم في شرارة التحولات المفاجئة في المنطقة العربية.
وإزاء هذه المستجدات الكبيرة، برزت قناعة متزايدة بأهمية الدور الرقابي للدولة في توجيه القطاعات والأسواق الأساسية. لكن هذه المرة في إطار أربعة مبادئ هي: سيادة القانون، والمتابعة والتقييم، والتعلّم من تجارب الماضي، والشراكة مع القطاع الخاص.
وعليه، لابد من رؤية وحوكمة جديدة للأسواق الحرة في إطار الدولة التنموية التشاركية، تضمن توفير سياسات ومؤسسات فاعلة لتحقيق العدالة والكفاءة جنباً الى جنب، وتجمع بين الرقابة والتحفيز، وهذه مسؤولية الجهات المعنية بتصميم وتنفيذ سياسات خلاقة لتحسين أداء الأسواق على المستوى الجزئي والقطاعي والكلي وبالشراكة مع القطاع الخاص قدر الإمكان.