دور الوسطية في صيانة الاستقلال وحفظه
بسم الله الرحمن الرحيم
خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان وأمده بخصائص تمكنه من القيام بوظيفة الاستخلاف في الأرض ؛ ومن خصائص الإنسان السوي إعتزازه بالانتماء واحتفاؤه بالكرامة والحرية؛ لأن الإنتماء عنوان الهوية وعلامة التميز،و»الإنسان اجتماعي بطبعه، ومدني بفِطرته، لا يستطيع أن يعيش منعزلًا دون الإحساس بالانتماء إلى كِيان أكبر منه؛ سواء كان هذا الكيان هو أسرته الصغيرة، أو قبيلته، أو وطنه ودولته، أو حتى العالم الكبير الذي يعيش فيه؛ لأنه من خلال هذه الانتماءات أو بعضها يحقق الإنسان إنسانيته، ويتحقق وجوديًّا في مجتمعه؛ لذلك يعد مفهوم الانتماء من المفاهيم المركزية التي تحدد طبيعة علاقة الفرد بالجماعة في كل زمان ومكان، ويقابله على الضد تمامًا مفهوم الاغتراب؛ الذي يعني الابتعاد النفسي للفرد عن ذاته وعن جماعته»[1] وينبطق هذا التوصيف على كل الناس وينسحب على الأمم؛ فالأمة التي لاتعتز بهويتها حكمت على نفسها بالموات، والأمم التي تقدمت هي التي حافظت على انتمائها، واعتزت بهويتها، وافتخرت بأصلها، وصانت ثقافتها؛ يقول الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛» كنا أذلاء فأعزنا الله بالإسلام فإذا طلبنا العزة في غيره أذلنا الله»
والمتأملَ في القرآن ِالكريم يُدركُ اهتمامَ القرآن ببناء شخصية الفرد المسلم بناءً قويا ولذلك نجد أنَّ الإسلامَ قد أحاط الطفل منذ أنْ كان حَملا في بطن أمه بسياجٍ من العزة متين؛ فلا يمارَسُ ضد أمه اي عنف، أو أيَّ شكل من الإهانة كالضرب والشتم مثلا، لكيلا يصبحَ ذليلا في يومٍ ما، لأنه من المعلوم أنَّ مثلَ هذه العواملِ تؤثرُ على أعصابِ الأمِّ في هذه المدة من استقرارٍ واضطراب، وأمن وخوفٍ وسرور وحُزن، وتؤثرُ على حملها تبَعا لذلك.
وكذلك إذا أصبحَ يافعا لا يُمارس ضده أيُّ مظهر منْ مظاهر الذلِّ، بل على الأب أنْ يربيَه على الشجاعة والكرم والعبادات والأخلاق الفاضلة التي منْ شأنها أنْ تقودَه إلى العزة، ولا يجوز ضربه أو شتمه أو الاستهزاء به أو تربيتِه على الجُبن والبُخل وتركِ الطاعات والأخلاق الذميمة التي مِن شأنها أنْ تقودَه إلى المذلة والهوان.[2]
هذا المنهج التربوي يعد الإنسان ليعيش حرا كريما أبيا يرفض التبعية والاذلال والخنوع؛ مما ينمي فيه ملكة الاستقلال برأيه وفكره ومواقفه وبالتالي يعتز بهويته التي تميز شخصيته؛ هذا التأسيس التربوي هو الذي يعزز الانتماء للامة والولاء للوطن والتحرر من التبعية بكل أشكالها. ولايعني هذا الوقوع في الإنعزال والانغلاق والتحجر والانكفاء على الذات؛ وإنما المقصود هو الاعتزاز بالانتماء، وعدم جلد الذات؛ مع إيجاد مساحة للتفاعل مع الآخر والاستفادة من خبراته؛ بما يقوي ويعزز التكامل بين الثقافات والحضارات والشعوب؛ تحقيقا لهدف سام هو التعارف، «...وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا».
ولو نظرَ المرءُ نظرةَ تأمل إلى فترة العهد المكي وما صاحبَها من أحداث لوجد أنَّ القرآنَ كان يوجه إلى ترسيخ معانيَ العزة في نفسِ المسلم، وقد كان اهتمامُ القرآن وعنايتُه بهذا الجانب متنوعا على أربع هيئات؛ فمرةً يذكرُ لفظ العزة تصريحا، وأخرى يَذكر اللفظ الذي يؤول معناه إلى عزة، وثالثةً يذكرُ السببَ الذي مِن شأنه أنْ يكونَ جسرا مُوصلا إلى بوابة العزة، ورابعةً بذم أضدادها ومقابلاتها فقد وردتْ لفظةُ العزة ومشتقاتهُا في القرآن الكريم مائة وتسعَ عشرة مرة في ثمانٍ وأربعين سورة، كان نصيبُ الآيات المكية منها للفظ الصريح أكثرَ من الآيات المدنية، وذلك مِن أجل تأسيس معنى العزة في النفوس. والله أعلم.[3]
وأما آياتُ العزة المدنية فقد كانت صريحة في طلب العزة وتهييج نفوس المؤمنين على اكتسابها، والترهيب من تركها أو طلبها من غيرِ مظانِّها، ولا أدلَّ على ذلك من آيتي سورة النساء وسورة المنافقون، فقد كانت في معرِض الحديث عن المنافقين وذمِّهم، بسبب ولائهم لأعداء الامة، قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} (النساء: 139)، وردَّ ادعاءهمُ الباطلَ بأنهم أصحابُ شرف وعزة بقوله تعالى: {يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى المَدِينَةِ...}، وجاءت آية سورة ِالمائدة تصبُّ في نفس الاتجاه {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (المائدة: 54) هذا وقد وردت لفظة العزة في القرآن الكريم اثنتين وتسعين مرة، كان نصيبُ المكي منها ثمانيَ وأربعينَ آية، وكان لهذا الاهتمام المكي بهذه اللفظة حكمة ٌبالغة من الله عز وجل، وهي أنَّ الله أراد أنْ تمتلئَ أسماعُ المؤمنين بهذه اللفظةِ، وترسخَ معانيها في أذهانهم، فيتربون على حبها في بداية الأمر، حتى يسيطرَ عليهمُ اليقينُ بعزة ربهم، ويستشعروا القوةَ في أنفسهم ويعتزوا بمن له الكبرياءُ وحده في السموات والأرض، ويتأبوْا عل الهوان حين يأتيهم من أيِّ مخلوق، ويفزعوا إلى الله ليُعزَّهم بعزته[4]
إن ابرز معنى للإستقلال الشعور بالأمن والحرية والاعتزاز بالإنتماء للوطن فكراً وروحاً وتراثاً وتراباً.
لقد تعرضت أمتنا لعدوان ثقافي وفكري واستعماري شوه تاريخها وزلزل قناعات كثير من الذين تربوا في ظل الاستعمار ولكن هيأ الله المخلصين والمجتهدين من المصلحين فتصدوا للغزو الاستعماري الفكري والثقافي والسياسي يفندون افتراءاته ويبطلون حججه ويؤكدون مرة أخرى تميز أمتنا الثقافي والحضاري تأكيدا لوعد رسول الله صلى الله عليه وسلم :» يهيء الله لهذا العلم في كل عصر عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين» إن منهج الوسطية يهدف إلى صيانة هوية الأمة واستقلالها وتعزيز روح الانتماء في أفرادها وجماعتها حتى تحقق دورها في الشهود الحضاري وذلك بالآتي:
أولا: إبراز عناصر التميز التي أكرم الله بها أمة الإسلام: حيث جعلها آخر الأمم التي تؤمن بسلسلة الرسالات السابقة، وتصدق كتبها، وتشهد على الأمم السابقة بأن رسل الله قد بلغوهم أمر ربهم، كذلك اشتملت الرسالة الخاتمة على كل الأصول التي اتفقت عليها الرسالات السابقة، وزادت عليها بالقيم التي تؤهلها لدور الرسالة الخاتمة، ومن عناصر التميز تبسيط التشريع ورفع الاصر والتدرج في الأحكام وملاءمتها للفطرة والتكريم للانسان من حيث أنه إنسان؛ بغض النظر عن لونه أو دينه أو نوعه أو ثقافته، كذلك مواكبة التشريع وقدرته على التعامل مع المستجدات مهما اختلف الزمان والمكان والبيئة، ويجمع كل ذلك الكتاب المعجز في نصه وفي صياغته وفي معارفه وفي هدايته وفي نبوءاته. قال تعالى: «ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين»
ثانيا:تحديد المرجعية والغاية: مايميز أمتنا هو وضوح المرجعية والغاية، فمعظم البشر يقرون بوجود الخالق «ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله» والفارق بيننا وبينهم هوأنهم يظنون أن الله خلق الكون وتركه لهم ليديروه حسب هواهم! ونحن نؤمن أنه خلقه ولم يتركه سدى وإنما حدد منهجا لإدارته، وبيَّن ثوابت هذا المنهج والمجالات التي يجوز فيها الاجتهاد ولتحقيق وظيفة الاستخلاف؛ منح الله الإنسان الأدوات التي تمكنه من اكتشاف السنن والقوانين المودعة في الأشياء ليطور ويبدع ويستفيد من الكون المسخر له. والإيمان بالمعاد يعطي الحياة معنى، فالأمل يذلل العقبات التي تواجه الإنسان في طريقه ويجعله مطمئنا بأن جهوده لن تضيع مادام هنالك عدل مطلق ينتظره؛ والمحاسِب يعلم خائنة الأعين وماتخفي الصدور.
ثالثا: القيم الحضارية لأمتنا: أمة الإيمان تعتز بانتمائها وعبوديتها لله، وتدرك أنها نالت قصب السبق في إقرار وحدة الأصل الإنساني؛ وصيانة كرامة الإنسان من حيث هو إنسان؛ والاعتراف بحق المخالف في الحياة والاعتقاد والتفكير والدعوة؛ وكفالة العدل والمساواة والحرية للجميع؛ ولم تحاسب اللاحقين بذنوب السابقين، وحصرت الادانة في الجاني ولم تنسحب على أسرته، فهي أمة الإيمان والعمران والإيمان بالبعث والمعاد.
رابعا: منهج الانفتاح والتعامل مع الآخر: مع الاعتزاز بالانتماء فإن أمة الإسلام فتح لها مجال الانفتاح على الآخر والاستفادة من تجربته، «فالحكمة ضالة المؤمن حيث وجدها أخذها» ورسولنا الخاتم جاء ليتمم مكارم الأخلاق؛ بل احتفى بحلف الفضول وقال:»لو دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت»! وبنص القرآن: « ولايجرمنكم شنئان قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى» فالاستقلال لم يمنع التواصل مع كل ماهو نافع من عطاء الإنسانية؛ إنه استقلال إيجابي وليس سلبيا.
خامسا:مقومات المحافظة على الاستقلال وصيانته:إن المحافظة على هوية الأمة والاعتزاز بالانتماء وصيانة استقلالها يتحقق بتوافر مقومات معينة هي:
- وضوح الثوابت الوطنية والالتزام بها وعدم التفريط فيها.
- ربط الانتماء بمتطلبات الإنسان الفطرية الضرورية وتعزيز روح الانتماء للامة الواحدة.
- تمكين قيم العدل والحرية والكرامة لجميع مكونات الوطن.
- إحياء المنهج الذي يحث على العلم وتوطين وانتاج المعرفة وتفعيل حركة المجتمع.
- تعزيز عوامل المشترك الإنساني وابرازها والدعوة لها لتأكيد المرونة في التعاطي مع الملف العالمي والمنظومة الدولية.
- الوعي بالواقع وعلاقاته المتشابكة والتعامل معه برشد واحترام الحريات السياسية للمكونات المختلفة.
- الوعي بالأخطار التي تهدد الاستقلال وتحديد البوصلة الدقيقة للعدو والصديق.
.................
م. مروان الفاعوري
الأمين العام للمنتدى العالمي للوسطية