كبار المستثمرين في العالم يحولون بوصلتهم للذهب الأكثر أمانا
مع استمرار توتر الأسواق تجاه مستقبل الاقتصاد العالمي، يزداد الذهب بريقا وجاذبية بالنسبة للمستثمرين، فقد حققت أسعار المعدن النفيس تسليم آب (أغسطس) أعلى مستوى سعري له خلال ثلاثة أسابيع لتصل إلى 1272.70 للأونصة، وبات من المعلوم الآن أن عددا من أساطين المستثمرين في العالم، يعتبر أن المرحلة المقبلة هي مرحلة الذهب لكونه أكثر أشكال الاستثمار أمانا وربحا.
وعلى الرغم من أن العرف قد جرى على أن يكون الذهب جزءا أصيلا من المحافظ الاستثمارية لكبار المستثمرين في العالم أو لصناديق التحوط، إلا أنه من الواضح أن نسبة المعدن الأصفر داخل المحافظ الاستثمارية في العالم آخذة في التزايد، مع توقع بعض المحللين أن تتجاوز أسعار المعدن النفيس حاجز 1300 دولار للأونصة، بل إن جيف جندلاش الرئيس التنفيذي لمجموعة "دابيلين" الاستثمارية العالمية أعرب عن قناعته بأن سعر أونصة الذهب سيصل إلى 1400 دولار هذا العام.
ولكن ما الذي يجعل الذهب الآن أكثر جاذبية للمستثمرين عن قبل؟ آندروا كيربي نائب رئيس قسم الأبحاث في اتحاد السبائك يعتقد أن هناك عددا من المستجدات في الجغرافية السياسية، يوجد حالة من التوتر والغموض تجاه المستقبل بالنسبة للمستثمرين، أولا هناك الاستفتاء البريطاني بشأن البقاء أو الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، وبغض النظر عن مصداقية التداعيات الاقتصادية السلبية التي يمكن أن تحدث للاقتصاد الأوروبي والبريطاني، إذا ما قرر الناخبون الخروج من الاتحاد، فإن حالة من التوتر تسود لدى كبار الرأسماليين في بريطانيا ما يدفعهم إلى التعامل بحذر شديد مع الوضع، والركون إلى أنواع الاستثمار الأكثر أمنا، ومن ثم فإن الطلب على الذهب يزداد الآن باعتباره أكثر أشكال الاستثمار ثباتا.
وأضاف لـ "الاقتصادية"، أن العامل الثاني سياسي أيضا ويرتبط بالانتخابات الأمريكية واحتمالية فوز ترامب بمنصب الرئيس، وأغلب التكهنات تشير إلى أن ذلك قد يسفر عن صدام بين واشنطن وبكين بشأن الديون الأمريكية واجبة السداد للصين، حيث صرح ترامب بأنه سيضغط على بكين لإعادة النظر في تلك الديون، وهذا لن يوجد فقط أجواء سلبية في التبادل التجاري بين البلدين، ولكن ربما يفاقم الأزمة الاقتصادية في الصين، ومن ثم فإن هناك رغبة من قبل المستثمرين بتجنب تبعات تلك اللحظة، والابتعاد عن الاستثمار في الأسهم وحتى السندات الحكومية والتركيز على الذهب.
بيرت بيل كبير المحللين الاستراتيجيين في بورصة لندن يعتقد أن العوامل المذكورة أعلاه عوامل صحيحة ولكنها مؤقتة، ولا تفسر الاتجاهات المستقبلية التي بدأت تتضح الآن بزيادة الطلب على الذهب، ويؤكد لـ "الاقتصادية"، أن هناك تغيرات في الأسواق الدولية، خاصة في سوق العملة تؤدي إلى ارتفاع أسعار الذهب، مشيرا إلى أن هناك تراجعا في قيمة الدولار حاليا، خاصة مع استبعاد مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي التوقعات السابقة بأن ترتفع أسعار الفائدة خلال هذا العام نحو أربعة مرات، والتأكيد بأنه ستتم زيادتها مرتين فقط. وأضاف بيرت بيل أن هناك عوامل أخرى تتعلق بمعدلات التوظيف في الولايات المتحدة، التي هي أقل من المتوقع، ومن المحتمل أن تواصل هذا المنوال مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية، وتضعف بذلك من احتمال رفع أسعار الفائدة، وبالتالي سيواصل الدولار وضعه المتراجع ما يجعل الاستثمار في المعدن النفيس حاليا أكثر ربحية مستقبلا. ويستدرك قائلا إنه كما أن قيام بعض البنوك المركزية في العالم بفرض أسعار فائدة سلبية صب في مصلحة الذهب، فيلاحظ أن توقيت الارتفاع التدريجي في أسعار الذهب تزامن مع البدء في فرض الفائدة السلبية، فالاقتصادات التي تطبق نظام الفائدة السلبية يبلغ إجمالي مساهمتها 27 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي على المستوى الدولي، وبالتالي فإن الفائدة السلبية تلغي عمليا أي تكلفة تفرض على امتلاك المعدن النفيس.
لكن تلك المبررات لا تخفي أن حقيقة التطورات في سوق الذهب ستتضح وتتبلور أكثر مع اتخاذ مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي قراره برفع أسعار الفائدة، فما زالت وجهات نظر المختصين تتباين حول تأثير هذا القرار على الاتجاه التصاعدي الحالي في أسعار المعدن الأصفر، لكن ما يتفق عليه الجميع في الوقت الحالي، أنه في أسوأ السيناريوهات المحتملة فإن الأسعار لن تهبط عن 1200 دولار للأونصة.
ويعتقد بعض المصرفيين أن أسعار الذهب لن تتأثر كثيرا برفع الفائدة الأمريكية، وإنما سينعكس هذا الارتفاع سلبا على أسعار الأسهم، وبما يفجر اتجاه عالمي للتخلص منها عبر عمليات بيع مكثفة، ويفسر ذلك من وجهة نظر المختص المصرفي شميم تشاتر إلى حد ما الطلب العالمي المتزايد على الذهب، رغم تركيز وسائل الإعلام الدولية على إمكانية رفع الفائدة الأمريكية. وأوضح تشاتر لـ "الاقتصادية"، أنه خلال الربع الأول من العام الحالي زاد الطلب على سبائك الذهب بنسبة 35 في المائة مقارنة بالعام الماضي، وارتفعت الأسعار بنسبة 16 في المائة وربما يعود ذلك للاعتقاد السائد بأن المعدل العالمي المنخفض حاليا للتضخم لا يمكن أن يستمر، وأن هناك عديدا من المؤشرات الآخذة في الارتفاع خلال الفترة المقبلة.
ومع هذا، فإن مجموعة متزايدة من المصرفيين ترى أن الضامن الحقيقي لمستقبل يحمل أنباء طيبة للمعدن النفيس، يعود إلى صناديق التبادل التجاري التي تعد المشتري الأكبر للذهب منذ بداية العام. إذا ارتفع مخزون الذهب لديها خلال الأشهر الخمس الماضية من 12 مليون أونصة إلى 52 مليونا، وسط توقعات بأنه إذا كسر الذهب حاجز 1275 دولارا للأونصة، فإن محطته التالية ستكون 1308 دولارات، ليفتح بذلك الباب أمام فئات أوسع من المستثمرين للإقبال عليه.
ويوجه البروفيسور لي هيتشمان أستاذ الاقتصاد الرياضي سابقا في جامعة كامبريدج والاستشاري لعدد من المصارف الأوروبية نصيحة للراغبين في الاستثمار قائلا: عليكم بالذهب لا تترددوا فإن المستقبل له، ويشرح لـ "الاقتصادية"، ما يعتبره تغيرات عميقة في المناخ الاستثماري العالمي تمهد الأرضية كي يكون العصر المقبل عصر الذهب، مشيرا إلى أن السبب الرئيسي لقيام كبار المستثمرين في العالم وصناديق التحوط بالتحول من الأسهم إلى الذهب، هو الشعور بالقلق بأن التوتر السياسي الراهن بين واشنطن وموسكو، وتزايد حدة الخلاف بين الصين وأمريكا بشأن الوضع في بحر الصين الجنوبي، والآفاق السلبية للعلاقة الثنائية إذا ما تولى ترامب سدة البيت الأبيض، تجعل الجميع يدرك أن روسيا والصين تدفعان تدريجيا إلى نظام عالمي جديد يلعب فيه الدولار دورا أقل لمصلحة الذهب، ويضيف أن هذا لن يتم سريعا ولكنه اتجاه سيتصاعد مع مرور الوقت.
ويعتبر البروفيسور لي هيتشمان أن قيام 1100 من الشركات العاملة في مجال إدارة الأصول باستثمار 78 مليون دولار في مجموعة "باريك" للذهب خلال الربع الأول من العام الحالي، مؤشر على إدراك دولي متزايد من قبل المستثمرين بالدور المقبل للذهب ليس فقط في مجال الاستثمار وإنما في وضع اللبنات الأولى لأي نظام عالمي جديد قد يبرز.
لكن هذه الروح المتفائلة تجاه مستقبل المعدن الأصفر تترافق مع ما يمكن وصفه بالواقعية في التفكير، فمعظم المصرفيين والمختصين في مجال تجارة الذهب يستبعدون تماما أن يصل سعر الأونصة إلى 1900 دولار، كما كان عليه الأمر في السابق، ولا يرتبط الأمر بعدم أهلية الأسواق في الوقت الحالي لتحمل هذا الارتفاع، ولكن أيضا لأن القفز من السعر الراهن الذي يقارب 1275 دولارا إلى 1900 دولار يعني أن الاقتصاد العالمي يواجه أزمة مالية واقتصادية لا تقل حدة عن أزمة 2008، وهو لن يكون في مصلحة الذهب على الأمد الطويل. وبسؤال آندروا نايت أحد المضاربين على المعادن في بورصة لندن عن نصائحه للراغبين في الاستثمار في الذهب، أوضح لـ "الاقتصادية"، أن علينا دائما أن نتذكر أنه يصعب التكهن باتجاهات الذهب السعرية بشكل دقيق، فهو يتحرك بسرعة ودون مقدمات، ويجب ألا تزيد نسبته في محفظتك الاستثمارية عن 10 في المائة، ولكن إذا كنت تعتقد أن الاقتصاد ينمو بسرعة فربما لا يكون الذهب أفضل مجال استثماري، أما إذا كانت الظنون تنتابك تجاه المستقبل، فلربما يكون من الأفضل زيادة نسبته في محفظتك الاستثمارية، وهو ما يبدو أن أغلب توقعات كبار المستثمرين تصب في هذا الاتجاه حاليا على الأقل.