‮«‬رواية‭ ‬ثقافية‮»‬


أنباء الوطن -

 

كتب‭ : ‬نادر‭ ‬رنتيسي

قبل‭ ‬عقد‭ ‬ونصف‭ ‬العقد‭ ‬من‭ ‬الزمان‭ ‬السريع،‭ ‬امتنعَتْ‭ ‬إحدى‭ ‬الجهات‭ ‬الرسمية‭ ‬عن‭ ‬تقديم‭ ‬الدّعم‭ ‬لنشر‭ ‬مجموعتي‭ ‬القصصية‭ ‬الأولى‭ ‬‮«‬السرير‭ ‬الحكّاء‮»‬‭. ‬اعتذر‭ ‬لي‭ ‬المسؤول‭ ‬المهذّب،‭ ‬وتقبّلتُ‭ ‬الأمر،‭ ‬ولم‭ ‬أتاجر‭ ‬بهذا‭ ‬الرفض‭ ‬إعلامياً‭. ‬أثناء‭ ‬مغادرتي‭ ‬مكتب‭ ‬المسؤول،‭ ‬ناداني‭ ‬موظف‭ ‬كهل،‭ ‬وأخبرني‭ ‬بهمس‭ ‬ولطف،‭ ‬أنّه‭ ‬قرأ‭ ‬مجموعتي‭ ‬القصصيّة،‭ ‬وقال‭ ‬إنّ‭ ‬لديه‭ ‬نصائح‭ ‬يتمنّى‭ ‬أن‭ ‬أستقبلها‭ ‬منه‭ ‬كابنه‭. ‬تحدّث‭ ‬عن‭ ‬‮«‬الجنس‭ ‬الصريح‮»‬‭ ‬في‭ ‬المجموعة،‭ ‬ورسالة‭ ‬الكاتب‭ ‬السامية،‭ ‬وذكّرني‭ ‬أنّ‭ ‬اللغة‭ ‬واسعة،‭ ‬وتتيح‭ ‬لي‭ ‬تجنّب‭ ‬‮«‬الحرام‮»‬‭.‬

استمعتُ‭ ‬إليه‭ ‬بصبر،‭ ‬رغم‭ ‬عدم‭ ‬قناعتي‭ ‬بوصاياه‭. ‬قاطعته‭ ‬لأردّ‭ ‬بأنّ‭ ‬الجنس‭ ‬في‭ ‬المجموعة‭ ‬يحمل‭ ‬إسقاطات‭ ‬سياسية‭ ‬واجتماعية‭ ‬عن‭ ‬سطوة‭ ‬القوي‭ ‬على‭ ‬الضعيف،‭ ‬وليس‭ ‬غرائزياً‭ ‬بالمجّان‭. ‬لكنّ‭ ‬ردّه‭ ‬كان‭ ‬وعظياً،‭ ‬فآثرتُ‭ ‬أن‭ ‬أهمهم‭ ‬إمّا‭ ‬موافقاً،‭ ‬وإمّا‭ ‬معترضاً‭ ‬بسلميّة‭ ‬واستعجال،‭ ‬لكنّي‭ ‬اخترتُ‭ ‬الصمت،‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬أملكُ‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭ ‬تفسيراً‭ ‬له،‭ ‬حين‭ ‬سألني‭ ‬الموظّف‭ ‬الكهلُ‭ ‬إنْ‭ ‬كنتُ‭ ‬أقبل‭ ‬أنْ‭ ‬يقرأ‭ ‬‮«‬أهل‭ ‬بيتي‮»‬‭ ‬المجموعة‭ ‬بصراحَتها‭. ‬ولم‭ ‬ينتظر‭ ‬جواباً،‭ ‬فأكد‭ ‬لي‭ ‬أنّه‭ ‬من‭ ‬المستحيل‭ ‬أنْ‭ ‬يُدخل‭ ‬المجموعة‭ ‬إلى‭ ‬بيته،‭ ‬وتعوّذَ‭ ‬وهو‭ ‬يورد‭ ‬احتمال‭ ‬أنْ‭ ‬تقع‭ ‬بين‭ ‬كفيّ‭ ‬ابنته‭.‬

الموظف‭ ‬الكهل،‭ ‬وهو‭ ‬أيضاً‭ ‬أبٌ‭ ‬‮«‬شمولي‮»‬‭ ‬كان‭ ‬يعتقدُ‭ ‬أنّ‭ ‬بإمكانه‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬ألفين‭ ‬واثنين‭ ‬أن‭ ‬يمنع‭ ‬وصول‭ ‬الكتب‭ ‬الورقيّة‭ ‬إلى‭ ‬ابنته،‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬الانترنت‭ ‬يقتصر‭ ‬على‭ ‬مكاتب‭ ‬المدراء‭ ‬السعداء،‭ ‬والوصول‭ ‬إلى‭ ‬الرقم‭ ‬السريّ‭ ‬لجهاز‭ ‬المدير‭ ‬السعيد،‭ ‬والتنعّم‭ ‬بخدمة‭ ‬غوغل‭ ‬وتصفح‭ ‬موقع‭ ‬‮«‬إيلاف‮»‬‭ ‬بتحميل‭ ‬ثقيل،‭ ‬يحتاجُ‭ ‬إلى‭ ‬تحضير‭ ‬الشاي‭ ‬للمدير،‭ ‬والضحك‭ ‬على‭ ‬نكاته‭ ‬القديمة،‭ ‬وهدية‭ ‬كيلو‭ ‬عسل‭ ‬السدر‭ ‬الجبلي‭. ‬كان‭ ‬الانترنت‭ ‬محدوداً‭ ‬في‭ ‬مقاهٍ‭ ‬تضعُ‭ ‬تحذيراً‭ ‬عند‭ ‬الباب‭ ‬‮«‬التصفح‭ ‬غير‭ ‬آمن‮»‬،‭ ‬وفي‭ ‬منازل‭ ‬العاصمة‭ ‬كان‭ ‬كمالياً،‭ ‬مثل‭ ‬الحَمّام‭ ‬الثالث‭.‬

ليس‭ ‬الموظف‭ ‬البسيط،‭ ‬الطيّب،‭ ‬فقط‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يعتقد‭ ‬أنّ‭ ‬له‭ ‬سلطة‭ ‬لا‭ ‬تردّ‭ ‬لإيقاف‭ ‬النّشر،‭ ‬وأن‭ ‬على‭ ‬مكتبه‭ ‬الفوضويّ‭ ‬تُوضعُ‭ ‬كل‭ ‬الكتب‭ ‬‮«‬الضالة‮»‬‭ ‬التي‭ ‬أوكلت‭ ‬إليه‭ ‬مهمّة‭ ‬إبعادها‭ ‬عن‭ ‬بيوت‭ ‬الناس،‭ ‬ورفوف‭ ‬مكتباتهم،‭ ‬وأكشاك‭ ‬أرصفتهم‭. ‬

دول‭ ‬حديديّة‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬كانت‭ ‬تعتقد‭ ‬أنه‭ ‬يمكن‭ ‬رفع‭ ‬الأسوار‭ ‬أمام‭ ‬سكّانها،‭ ‬ومنع‭ ‬‮«‬الخبز‭ ‬الحافي‮»‬‭ ‬عن‭ ‬موائدها،‭ ‬حتى‭ ‬بوغتت‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬رجس‭ ‬الانترنت‮»‬‭ ‬يدخل‭ ‬كالحصانة‭ ‬الدبلوماسيّة‭ ‬حدودها‭ ‬الرملية‭ ‬والبحرية‭ ‬والجويّة،‭ ‬وتقرأ‭ ‬الناس‭ ‬بأثر‭ ‬رجعيٍّ‭ ‬كلّ‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬مرصوصاً‭ ‬في‭ ‬المستودعات‭ ‬غذاء‭ ‬للقوارض‭.‬

قبل‭ ‬الانترنت‭ ‬السريع،‭ ‬ودهشة‭ ‬الفاكس،‭ ‬كان‭ ‬المنع‭ ‬أيضاً‭ ‬مخترقاً،‭ ‬والهواء‭ ‬يخرج‭ ‬من‭ ‬ثقوب‭ ‬المكاتب‭ ‬الرّمادية،‭ ‬بالحيلة،‭ ‬أو‭ ‬بالخطأ،‭ ‬وبالمصادفة‭ ‬أحياناً،‭ ‬ففي‭ ‬الجامعة‭ ‬قرأتُ‭ ‬كتباً‭ ‬كانت‭ ‬ممنوعة‭ ‬من‭ ‬دخول‭ ‬البلاد،‭ ‬لكنّها‭ ‬وقفت‭ ‬آمنَة‭ ‬مطمئنّة‭ ‬على‭ ‬رفّ‭ ‬المكتبة‭ ‬الجامعيّ‭ ‬لأنّ‭ ‬الموظف‭ ‬كان‭ ‬كسولاً‭ ‬أو‭ ‬متواطئاً‭. ‬وفي‭ ‬المدرسة،‭ ‬في‭ ‬الصف‭ ‬الحادي‭ ‬عشر،‭ ‬قرأتُ‭ ‬‮«‬الربيع‭ ‬والخريف‮»‬‭ ‬لحنّا‭ ‬مينا‭. ‬الرواية‭ ‬التي‭ ‬كتبها‭ ‬من‭ ‬وحي‭ ‬تجربته‭ ‬في‭ ‬المنفى‭ ‬المجريّ،‭ ‬عن‭ ‬مناضل‭ ‬اشتراكي‭ ‬يجد‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬المحصلة‭ ‬بين‭ ‬شرقين‭: ‬عربيٍّ‭ ‬وأوروبي‭. ‬سألني‭ ‬شريكي‭ ‬في‭ ‬المقعد‭ ‬عن‭ ‬قصة‭ ‬الرواية،‭ ‬فأجبته‭. ‬لم‭ ‬يعجبه‭ ‬موضوعها،‭ ‬لكنّ‭ ‬فضولاً‭ ‬دفعه‭ ‬لتقليب‭ ‬أوراقها،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬أعيدها‭ ‬إلى‭ ‬المكتبة‭ ‬التي‭ ‬أمينها‭ ‬‮«‬سَلفيّ‮»‬‭.‬

استعارَها،‭ ‬وقرأها،‭ ‬وشكَرني،‭ ‬وبعد‭ ‬شهر‭ ‬في‭ ‬الاستراحة،‭ ‬اقترب‭ ‬مني‭ ‬طالب‭ ‬نحيل‭ ‬من‭ ‬شعبة‭ ‬أخرى،‭ ‬وشكرني‭ ‬أيضاً‭ ‬على‭ ‬‮«‬الرواية‭ ‬الثقافية‮»‬‭ ‬التي‭ ‬علمتُ‭ ‬أنّها‭ ‬انتشرت‭ ‬بين‭ ‬الطلاّب،‭ ‬ولما‭ ‬اكتشَفَ‭ ‬أمين‭ ‬المكتبة‭ ‬السلفي‭ ‬أمرَها،‭ ‬وأتلفَها،‭ ‬كانت‭ ‬تباعُ‭ ‬بجانب‭ ‬المدرسة‭ ‬مصوّرة‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬دوسيه‮»‬‭ ‬في‭ ‬مكتبة‭ ‬للقرطاسية‭!.‬