منسف و «فيسبوك»


أنباء الوطن -

 

كتبت : بسمة‭ ‬النسور

بشدة‭ ‬انتقد‭ ‬صديق‭ ‬عزيز‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬حوار‭ ‬شيق،‭ ‬تضمّن‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬المناكفة‭ ‬وشيئاً‭ ‬من‭ ‬غيرة‭ ‬الكار،‭ ‬كونه‭ ‬طباخاً‭ ‬متوسط‭ ‬المستوى،‭ ‬انتقد‭ ‬حرصي‭ ‬على‭ ‬نشر‭ ‬صور‭ ‬بعض‭ ‬أطباقي‭ ‬التي‭ ‬أعتز‭ ‬بإتقاني‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬صفحتي‭ ‬على‭ ‬‮«‬فيسبوك‮»‬،‭ ‬معتبراً‭ ‬أن‭ ‬سلوكا‭ ‬كهذا‭ ‬لا‭ ‬يليق‭ ‬بكاتبة‭ ‬جادة‭ ‬ورصينة‭. ‬ونصحني‭ ‬بعدم‭ ‬التباسط‭ ‬مع‭ ‬زوار‭ ‬الصفحة‭ ‬الكثيرين،‭ ‬كوني‭ ‬شخصية‭ ‬عامة،‭ ‬بحسب‭ ‬توصيفه‭. ‬وقال‭ ‬إن‭ ‬نشر‭ ‬صور‭ ‬طبخاتي‭ ‬الشهية‭ ‬انتهاك‭ ‬مجاني‭ ‬للخصوصية،‭ ‬كما‭ ‬إنه‭ ‬لا‭ ‬يخلو‭ ‬من‭ ‬استعراض‭ ‬غير‭ ‬لائق،‭ ‬ما‭ ‬يجعله‭ ‬منسجماً‭ ‬مع‭ ‬ملامح‭ ‬السخف‭ ‬والتسطيح‭ ‬وحكي‭ ‬النسوان‭ ‬في‭ ‬الصالونات‭! ‬وهذه،‭ ‬بحسبه،‭ ‬باتت‭ ‬سماتٍ‭ ‬تميز‭ ‬هذا‭ ‬الموقع‭ ‬الإشكالي،‭ ‬ما‭ ‬دفعه‭ ‬‮«‬الصديق‮»‬‭ ‬وآخرين‭ ‬إلى‭ ‬طلاقه،‭ ‬غير‭ ‬نادمين،‭ ‬طلاقاً‭ ‬لا‭ ‬رجعة‭ ‬عنه،‭ ‬متخلصاً‭ ‬من‭ ‬إدمان‭ ‬تواصل،‭ ‬رافقه‭ ‬سنواتٍ،‭ ‬جعلت‭ ‬منه‭ ‬نجماً‭ ‬افتراضيا‭ ‬يحرص‭ ‬ألوف‭ ‬من‭ ‬بقاع‭ ‬مختلفة‭ ‬على‭ ‬زيارة‭ ‬صفحته‭ ‬الثرية‭ ‬المتنوعة،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬الرجل‭ ‬ضجر‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الضوضاء،‭ ‬وقرّر،‭ ‬أخيراً،‭ ‬النأي‭ ‬بالذات‭ ‬عن‭ ‬حالة‭ ‬الانكشاف‭ ‬المطلقة‭ ‬التي‭ ‬وقعنا‭ ‬في‭ ‬فخها،‭ ‬مؤكدين‭ ‬عزلتنا‭ ‬ووحشتنا‭ ‬المطلقة،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬وهم‭ ‬الاقتراب‭ ‬والحميمة‭ ‬التي‭ ‬تتيحه‭ ‬سهولة‭ ‬الضغط‭ ‬على‭ ‬الأزرار‭.‬

‭ ‬

لا‭ ‬تشغل‭ ‬هذه‭ ‬القضية‭ ‬بالي‭. ‬وإنما‭ ‬النظرة‭ ‬الدونية‭ ‬من‭ ‬مجتمعاتنا‭ ‬إلى‭ ‬فن‭ ‬الطهي،‭ ‬باعتباره‭ ‬عملاً‭ ‬قليل‭ ‬الشأن‭ ‬في‭ ‬سلم‭ ‬المهن،‭ ‬ولا‭ ‬يتطلب‭ ‬علماً‭ ‬أو‭ ‬معرفة‭ ‬وموهبة‭. ‬ومن‭ ‬هذا‭ ‬المنظور،‭ ‬هو‭ ‬حل‭ ‬اضطراري‭ ‬للفاشلين‭ ‬أكاديمياً،‭ ‬ممن‭ ‬لا‭ ‬يصلحون‭ ‬لشيء‭ ‬ذي‭ ‬قيمة‭ ‬في‭ ‬الحياة،‭ ‬وتأتي‭ ‬مثل‭ ‬تلك‭ ‬الطروحات‭ ‬بشكل‭ ‬خاص‭ ‬للتقليل‭ ‬من‭ ‬منجز‭ ‬النساء‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬العامة،‭ ‬والإقران‭ ‬القسري‭ ‬غير‭ ‬المنطقي‭ ‬بين‭ ‬حقيقة‭ ‬الأنوثة‭ ‬وفعل‭ ‬الطهي‭ ‬كمتلازمة،‭ ‬غير‭ ‬منتبهين‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬ليس‭ ‬كل‭ ‬امرأةٍ‭ ‬تحب‭ ‬الطهي‭ ‬أو‭ ‬تتقنه،‭ ‬وثمة‭ ‬رجال‭ ‬كثيرون‭ ‬يجدون‭ ‬متعة‭ ‬كبرى‭ ‬في‭ ‬المطبخ،‭ ‬ويبرعون‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الفن‭ ‬الممتع‭ ‬الذي‭ ‬يتطلب‭ ‬إتقانه‭ ‬عناصر‭ ‬عديدة،‭ ‬في‭ ‬مقدمتها‭ ‬الخيال‭ ‬والموهبة‭ ‬والقدرة‭ ‬على‭ ‬مزج‭ ‬العناصر،‭ ‬بما‭ ‬يعني‭ ‬تورّط‭ ‬الحواس‭ ‬كلها‭. ‬وبهذا‭ ‬المعنى‭ ‬لا‭ ‬تختلف‭ ‬خطوات‭ ‬إعداد‭ ‬طبقٍ‭ ‬ما‭ ‬عن‭ ‬أي‭ ‬عمل‭ ‬إبداعي‭ ‬آخر،‭ ‬إذ‭ ‬يضع‭ ‬الطاهي‭ ‬البارع‭ ‬الموهوب‭ ‬بصمة‭ ‬روحه‭ ‬وملامحها‭ ‬في‭ ‬الطبق،‭ ‬فيضفي‭ ‬عليه‭ ‬الخصوصية‭ ‬والجمال‭ ‬والتمييز‭. ‬من‭ ‬هنا،‭ ‬يمكن‭ ‬اعتبار‭ ‬الطهي‭ ‬من‭ ‬أنشطة‭ ‬البشرية‭ ‬التي‭ ‬تعكس‭ ‬مدى‭ ‬تحضر‭ ‬أي‭ ‬أمة‭ ‬وثقافتها،‭ ‬بل‭ ‬استطاعت‭ ‬دراسات‭ ‬أكاديمية‭ ‬رصينة‭ ‬رصد‭ ‬ملامح‭ ‬حضارات‭ ‬أمم‭ ‬سابقة‭ ‬غابرة،‭ ‬بدراسة‭ ‬أنماطها‭ ‬الغذائية‭ ‬وطرق‭ ‬الطهي‭ ‬لديها‭ ‬وطقوس‭ ‬تناولها‭ ‬الطعام‭.‬

بتأثرٍ‭ ‬من‭ ‬كلمات‭ ‬الصديق،‭ ‬أجريت‭ ‬اختباراً‭ ‬بسيطاً‭ ‬غير‭ ‬بريء‭ ‬تماماً‭ ‬على‭ ‬‮«‬فيسبوك‮»‬‭. ‬وكنت‭ ‬متأكدة‭ ‬من‭ ‬النتيجة،‭ ‬غير‭ ‬أنني‭ ‬رغبت‭ ‬في‭ ‬وصول‭ ‬مرحلةٍ،‭ ‬لكي‭ ‬يطمئن‭ ‬قلبي،‭ ‬لعل‭ ‬الصديق‭ ‬كان‭ ‬محقّاً‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬ذهب‭ ‬إليه،‭ ‬فنشرت،‭ ‬في‭ ‬ظهيرة‭ ‬وقبل‭ ‬موعد‭ ‬الغداء‭ ‬بنصف‭ ‬ساعة،‭ ‬صورة‭ ‬منسف‭ ‬أردنيّ‭ ‬نخب‭ ‬أول‭ ‬مكتمل‭ ‬العناصر‭ ‬والشروط،‭ ‬مطابقاً‭ ‬للمواصفات‭ ‬الفنية‭ ‬المعتمدة‭ ‬عرفاً،‭ ‬فاشتعلت‭ ‬الصفحة‭ ‬حماساً‭ ‬وانهالت‭ ‬اللايكات‭ ‬التي‭ ‬بلغت‭ ‬الخمسمائة‭ ‬في‭ ‬ظرف‭ ‬ساعة‭. ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬سيل‭ ‬التعليقات‭ ‬الطريفة‭ ‬التي‭ ‬تستحسن‭ ‬المشهد،‭ ‬وأخرى‭ ‬وردت‭ ‬من‭ ‬أصدقاء‭ ‬مغتربين،‭ ‬تشكو‭ ‬تعسّفي‭ ‬في‭ ‬استخدام‭ ‬الصورة،‭ ‬لإثارة‭ ‬أشواقهم‭ ‬وحنينهم‭ ‬إلى‭ ‬الوطن‭ ‬وتلعن‭ ‬الغربة‭.‬

كما‭ ‬أثار‭ ‬المشهد‭ ‬فضول‭ ‬أصدقاء‭ ‬من‭ ‬أقطار‭ ‬عربية،‭ ‬ونشره‭ ‬عديدون‭ ‬منهم‭ ‬على‭ ‬صفحاتهم‭ ‬تعميماً‭ ‬للفائدة‭ (!). ‬وفي‭ ‬اليوم‭ ‬التالي،‭ ‬نشرت‭ ‬مقالاً‭ ‬عن‭ ‬قضية‭ ‬إنسانية‭ ‬متعلقة‭ ‬بحق‭ ‬أب‭ ‬بمشاهدة‭ ‬صغاره،‭ ‬ويستعرض‭ ‬المآسي‭ ‬المترتبة‭ ‬على‭ ‬ظاهرة‭ ‬الطلاق‭ ‬شديدة‭ ‬الانتشار‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الأيام،‭ ‬فحاز‭ ‬نحو‭ ‬مئة‭ ‬لايك،‭ ‬ليس‭ ‬مؤكّداً‭ ‬أن‭ ‬أصحابها‭ ‬قرأوا‭ ‬المقال‭ ‬فعلاً‭. ‬

وبعد‭ ‬هذا‭ ‬كله،‭ ‬أيها‭ ‬الصديق‭ ‬الحريص،‭ ‬ألا‭ ‬تتفق‭ ‬معي‭ ‬على‭ ‬سطوة‭ ‬الصورة‭ ‬مقابل‭ ‬الكلمة،‭ ‬في‭ ‬أحيان‭ ‬كثيرة،‭ ‬ولا‭ ‬سيما‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬الصورة‭ ‬لطبق‭ ‬شهي‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬جوع‭. ‬وما‭ ‬الغضاضة‭ ‬في‭ ‬نشر‭ ‬صور‭ ‬بعض‭ ‬الأطباق،‭ ‬بين‭ ‬حين‭ ‬وآخر،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬كتابة‭ ‬طرفة‭ ‬أو‭ ‬مشاركة‭ ‬صورة‭ ‬لحظة‭ ‬فرح‭ ‬شخصية،‭ ‬ولا‭ ‬سيما‭ ‬أن‭ ‬الجميع‭ ‬بات‭ ‬شخصية‭ ‬عامة‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬سواء،‭ ‬بفضل‭ ‬الرفيق‭ ‬زوكربرغ‭. ‬وتبقى‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬السلوكيات‭ ‬البسيطة‭ ‬من‭ ‬أشكال‭ ‬التمسك‭ ‬بالأسباب‭ ‬البسيطة‭ ‬الممكنة‭ ‬للسعادة‭ ‬في‭ ‬حياتنا‭ ‬المقفرة‭ ‬القاحلة‭ ‬من‭ ‬أسبابها‭ ‬الحقيقية،‭ ‬وهي‭ ‬بالضروة‭ ‬لا‭ ‬تشكل‭ ‬أي‭ ‬خطورةٍ‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬وعي‭ ‬الأجيال،‭ ‬الصاعدة‭ ‬المنكوبة‭ ‬على‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬صعيد‭.‬

- عن العربي الجديد