التنمية‭ ‬تحت‭ ‬الاحتلال


أنباء الوطن -

 

كتب‭ : ‬ناجح‭ ‬شاهين

كأني‭ ‬أسير‭ ‬في‭ ‬اتجاه‭ ‬مطار‭ ‬ج‭.‬ف‭. ‬كنيدي‭ ‬في‭ ‬نيويورك‭: ‬أزمة‭ ‬السيارات‭ ‬الخانقة‭ ‬من‭ ‬مشفى‭ ‬الهلال‭ ‬حتى‭ ‬مفترق‭ ‬مخيم‭ ‬الجلزون،‭ ‬مسافة‭ ‬ربما‭ ‬لا‭ ‬تزيد‭ ‬عن‭ ‬أربعة‭ ‬كيلومترات‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬زهاء‭ ‬ساعة‭. ‬وفوضى‭ ‬سيارات‭ ‬مريعة‭. ‬من‭ ‬أين‭ ‬جاءت‭ ‬تلك‭ ‬السيارات‭ ‬التي‭ ‬لاعد‭ ‬لها‭ ‬والتي‭ ‬تنافس‭ ‬في‭ ‬كثافة‭ ‬حركتها‭ ‬الطريق‭ ‬الذي‭ ‬يوصل‭ ‬إلى‭ ‬مطار‭ ‬كنيدي‭ ‬أو‭ ‬الجسر‭ ‬الذي‭ ‬يربط‭ ‬بين‭ ‬الشارقة‭ ‬ودبي؟

إنها‭ ‬التنمية‭ ‬التي‭ ‬تتحقق‭ ‬في‭ ‬فلسطين‭ ‬–الحمد‭ ‬لله‭- ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أنف‭ ‬الاحتلال‭. ‬

عندما‭ ‬احتل‭ ‬الانجليز‭ ‬مصر‭ ‬والسودان‭ ‬والهند‭ ‬وغيرها،‭ ‬فتحوا‭ ‬المدارس‭: ‬إن‭ ‬أول‭ ‬مدارس‭ ‬فتحت‭ ‬في‭ ‬الدنيا‭ ‬المستمعرة‭ ‬فتحها‭ ‬الاستعمار‭ ‬لكي‭ ‬يصنع‭ ‬شعباً‭ ‬على‭ ‬مقاس‭ ‬ما‭ ‬يحتاجه‭ ‬اقتصاد‭ ‬البلد‭ ‬المستعمر‭ ‬وبما‭ ‬يخدم‭ ‬مصالحه‭. ‬الاستعمار‭ ‬أراد‭ ‬بناء‭ ‬ثقافة‭ ‬اقتصادية‭ ‬وسياسية‭ ‬واستهلاكية‭ ‬تخدم‭ ‬مصالحه‭ ‬وتسهل‭ ‬له‭ ‬دمج‭ ‬البلاد‭ ‬المحكومة‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬اقتصاده،‭ ‬‮«‬فنمت‮»‬‭ ‬نمواً‭ ‬تبعياً‭ ‬يجعلها‭ ‬مناسبة‭ ‬تماماً‭ ‬لدعم‭ ‬البناء‭ ‬القائم‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬الاستعمار‭ ‬الرأسمالي‭ ‬الصناعي‭. ‬لذلك‭ ‬اعتقد‭ ‬اللورد‭ ‬كرومر‭ ‬أن‭ ‬مصر‭ ‬صنعها‭ ‬الله،‭ ‬تخيلوا‭ ‬صنعها‭ ‬الله،‭ ‬لكي‭ ‬تكون‭ ‬مزرعة‭ ‬قطن‭ ‬للمصانع‭ ‬الانجليزية،‭ ‬وأنها‭ ‬لا‭ ‬تنفع‭ ‬للصناعة‭ ‬أبداً‭.‬

بالطبع‭ ‬علم‭ ‬الاستعمار‭ ‬‮«‬نخبة‮»‬‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬البلاد‭ ‬الخاضعة‭ ‬للاستعمار‭ ‬وأعطاهم‭ ‬شيئاً‭ ‬من‭ ‬فتات‭ ‬الامتيازات‭ ‬كيما‭ ‬يتحولوا‭ ‬إلى‭ ‬أداة‭ ‬له‭ ‬لكي‭ ‬يسهلوا‭ ‬عليه‭ ‬عملية‭ ‬إخضاع‭ ‬البلاد‭ ‬ونهبها‭.‬

‭ ‬

لا‭ ‬جرم‭ ‬أن‭ ‬مناطق‭ ‬الضفة‭ ‬الغربية‭ ‬وغزة‭ ‬قد‭ ‬‮«‬نمت‮»‬‭ ‬تحت‭ ‬الاحتلال‭ ‬الصهيوني‭. ‬وقد‭ ‬ارتفع‭ ‬مستوى‭ ‬الدخل،‭ ‬ومستوى‭ ‬الاستهلاك،‭ ‬وقد‭ ‬نجح‭ ‬الاحتلال‭ ‬في‭ ‬إزاحة‭ ‬أو‭ ‬احتواء‭ ‬القيادات‭ ‬الإقطاعية‭ ‬الزراعية‭ ‬وأحل‭ ‬محلها‭ ‬نخباً‭ ‬من‭ ‬المقاولين‭ ‬الذين‭ ‬يعملون‭ ‬في‭ ‬البناء‭ ‬والإنشاءات‭ ‬في‭ ‬مستوطناته‭ ‬داخل‭ ‬‮«‬الخط‭ ‬الأخضر‮»‬‭ ‬وفي‭ ‬الضفة‭ ‬على‭ ‬السواء‭. ‬نجح‭ ‬الاحتلال‭ ‬في‭ ‬تقزيم‭ ‬الزراعة‭ ‬ودورها‭ ‬لمصلحة‭ ‬العمل‭ ‬‮«‬المجزي‮»‬‭ ‬والمربح‭ ‬أكثر‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬الاقتصاد‭ ‬‮«‬الإسرائيلي‮»‬‭. ‬وتم‭ ‬تقويض‭ ‬الصناعة‭. ‬وانتشر‭ ‬التعليم‭ ‬العالي‭ ‬الذي‭ ‬خرج‭ ‬أناساً‭ ‬لا‭ ‬مكان‭ ‬لهم‭ ‬في‭ ‬البلاد‭ ‬ليسافروا‭ ‬–بعضهم‭ ‬دون‭ ‬رجعة‭- ‬الى‭ ‬الخليج‭. ‬وتوسعت‭ ‬قدرة‭ ‬المواطن‭ ‬الفلسطيني‭ ‬على‭ ‬الاستهلاك‭ ‬المعتمد‭ ‬على‭ ‬دخل‭ ‬لا‭ ‬بأس‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬دولة‭ ‬الكيان‭. ‬لكن‭ ‬ذلك‭ ‬الدخل‭ ‬صب‭ ‬بالطبع‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬اقتصاد‭ ‬الكيان‭ ‬ذاته‭.‬

وجاءت‭ ‬سلطة‭ ‬أوسلو‭ ‬ليتواصل‭ ‬النهج‭ ‬تقريباً‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬تقلص‭ ‬الزراعة‭ ‬والصناعة‭ ‬مع‭ ‬اتساع‭ ‬دور‭ ‬الوظيفة‭ ‬الحكومية‭ ‬وقطاع‭ ‬العاملين‭ ‬في‭ ‬الامن‭ ‬والعسكر‭. ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬ازدادت‭ ‬النزعة‭ ‬الاستهلاكية‭ ‬التي‭ ‬تأتي‭ ‬على‭ ‬المنتجات‭ ‬المستوردة‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬حدب‭ ‬وصوب‭. ‬وانخفض‭ ‬دور‭ ‬الزراعة‭ ‬والصناعة‭ ‬عن‭ ‬ذي‭ ‬قبل‭. ‬وتوسع‭ ‬‮«‬التعليم‮»‬‭ ‬الى‭ ‬حد‭ ‬أصبحت‭ ‬فيه‭ ‬‮«‬فلسطين‮»‬‭ ‬أكبر‭ ‬مصنع‭ ‬للشهادات‭ ‬العليا‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬مكان‭ ‬لحامليها‭ ‬في‭ ‬بنية‭ ‬الاقتصاد‭. ‬

لكن‭ ‬التمويل‭ ‬الأجنبي‭ ‬الذي‭ ‬يتحقق‭ ‬بصفته‭ ‬ريعياً‭ ‬سياسياً‭ ‬مكن‭ ‬شرائح‭ ‬واسعة‭ ‬من‭ ‬العيش‭ ‬في‭ ‬مستويات‭ ‬تتفوق‭ ‬بشكل‭ ‬ساحق‭ ‬على‭ ‬بلدان‭ ‬لا‭ ‬بأس‭ ‬بدرجة‭ ‬نموها‭ ‬مثل‭ ‬البرازيل‭ ‬والهند‭ ‬وحتى‭ ‬الصين‭. ‬ولا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬الغالبية‭ ‬العظمى‭ ‬من‭ ‬الصينيين‭ ‬الذين‭ ‬تهدد‭ ‬بلادهم‭ ‬بكسر‭ ‬هيمنة‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬تعيش‭ ‬في‭ ‬مستوى‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬المستوى‭ ‬الفلسطيني‭. ‬لكن‭ ‬بالطبع‭ ‬يعلم‭ ‬القاصي‭ ‬والداني‭ ‬أن‭ ‬الدخل‭ ‬المتأتي‭ ‬من‭ ‬الوظيفة‭ ‬في‭ ‬السلطة‭ ‬ومنظمات‭ ‬‮«‬الأن‭ ‬جي‭ ‬أوز‮»‬‭ ‬ليس‭ ‬مضموناً‭ ‬مدة‭ ‬شهر‭ ‬واحد‭: ‬في‭ ‬اية‭ ‬لحظة‭ ‬يقرر‭ ‬الممول‭ ‬الغربي‭ ‬إغلاق‭ ‬صنبور‭ ‬التمويل‭ ‬تنهار‭ ‬المؤسسات‭ ‬كلها،‭ ‬وتغرق‭ ‬البلد‭ ‬في‭ ‬ظلام‭ ‬المجاعة‭. ‬

لكن‭ ‬ما‭ ‬دام‭ ‬التمويل‭ ‬يواصل‭ ‬تدفقه‭ ‬فإن‭ ‬النمو‭ ‬–أم‭ ‬أسميه‭ ‬تنمية؟‭- ‬الاستهلاكي‭ ‬يتسع‭ ‬خالقاً‭ ‬الوهم‭ ‬لدى‭ ‬البعض‭ ‬بأن‭ ‬الأمور‭ ‬تسير‭ ‬من‭ ‬حسن‭ ‬إلى‭ ‬أحسن‭. ‬لكن‭ ‬واقع‭ ‬الحال‭ ‬يعرفه‭ ‬أي‭ ‬مواطن‭ ‬ذكي‭ ‬بسيط،‭ ‬وهو‭ ‬لا‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬علماء‭ ‬في‭ ‬الاقتصاد‭ ‬أو‭ ‬السياسة‭ ‬أو‭ ‬الاقتصاد‭ ‬السياسي‭ ‬أو‭ ‬التنمية‭: ‬واقع‭ ‬الحال‭ ‬يلخصة‭ ‬مظفر‭ ‬النواب‭ ‬في‭ ‬قوله‭ :‬

‮«‬والبلاد‭ ‬إذا‭ ‬سمنت‭ ‬وارمة‮»‬‭.‬

كذلك‭ ‬حذر‭ ‬المتنبي‭ ‬الذي‭ ‬يستلهمه‭ ‬النواب‭ ‬من‭ ‬توهم‭ ‬أن‭ ‬المرض‭ ‬نمو‭ ‬وازدهار‭:‬

‮«‬أعيذها‭ ‬نظرات‭ ‬منك‭ ‬فاحصة‭ ‬ان‭ ‬تحسب‭ ‬الشحم‭ ‬فيمن‭ ‬شحمه‭ ‬ورم‮»‬‭.‬

وإنه‭ ‬لأسفنا‭ ‬الشديد‭ ‬ورم‭ ‬يجتاحنا‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬الريع‭ ‬السياسي‭ ‬مثلما‭ ‬اجتاح‭ ‬إخوتنا‭ ‬في‭ ‬خليج‭ ‬النفط‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬الريع‭ ‬البترولي‭. ‬ولا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬حالنا‭ ‬أصعب‭ ‬وأشد‭ ‬خطراً‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬قدرة‭ ‬‮«‬التنمية‮»‬‭ ‬القائمة‭ ‬على‭ ‬تهيئة‭ ‬البلاد‭ ‬لقمة‭ ‬سائغة‭ ‬ليلتهمها‭ ‬الاحتلال‭ ‬نهائياً‭ ‬حين‭ ‬تحل‭ ‬اللحظة‭ ‬المناسبة‭.‬

- عن صفحة الكاتب الشخصية