افتتاحية رسمية لعصر الزومبي
كتب : سامح المحاريق*
يقظت اسطنبول العالم على جريمة بشعة في ليلة رأس السنة، وسيتطلب الأمر بعض الوقت قبل أن تضعها البلاغة التاريخية في موقع المشهد الختامي لسنة أخرى ساخنة من الأعمال الإرهابية، التي ضربت العديد من المناطق حول العالم خلال سنة 2016 أم ستكون بداية لوقائع رقصة جديدة ودموية للأشباح مع عام 2017.
ومع هول الواقعة في إسطنبول إلا أن حادثاً صغيراً وقع في مدينة الاسكندرية التي عرفت في الأدبيات المصرية والعربية بعروس البحر المتوسط، يحمل في داخله بذرة أكثر خطورة من كل الموت العشوائي والأعمى الذي شهدته ضفاف البوسفور.
وقعت حادثة الذبح الخاطفة والفردية في مدينة الإسكندرية في الساعات الأولى من الفجر وكان ضحيتها صاحب أحد المحلات التجارية القليلة التي تبيع الخمور في شرق المدينة، وسجلت كاميرا التصوير الحادثة التي لم تستغرق إلا بضع ثوان، وتمكنت القوى الأمنية من إلقاء القبض على الفاعل خلال فترة قياسية، بينما كان المصريون يتداولون الفيديو القصير الذي صور حادث شارع خالد بن الوليد، الذي يشهد في هذه الفترة مرحلة من الأفول قياساً بماضيه المزدهر في التسعينيات من القرن الماضي.
القاتل يمكن أن يصنف على هوامش الحركة السلفية، على وجهه لحية طويلة صبغها بالحناء، وفي رأسه أفكار مشوشة ومعارف سماعية، تراكمت وتداخلت واضطربت نتيجة جهله بالقراءة والكتابة، والضحية، قبطي كهل من العاملين في المهن التي تكاد تكون مغلقة للأقباط، ولكن كل هذه الإغراءات لم تلق بالجريمة في خانة التصنيف الطائفي، نظراً لجدية السؤال حول كيفية الوصول إلى هذا المشهد المرعب، الذي كان يطرح نفسه بين أهالي المدينة الذين يشكل الشارع ومحيطه جزءاً حميمياً من ذاكرتهم.
يمتد الشارع لنحو ثلاثة كيلومترات من منطقة سيدي بشر وينتهي في شاطئ ميامي الذي اشتهر بعد ثورة يوليو بوصفه الوجهة المفضلة للطبقة الارستقراطية المصرية، إلا أن واقعه الراهن لا يعكس تلك الصورة القديمة، فالشاطئ مقصد صيفي للطبقات الفقيرة التي تزحف للإسكندرية بمئات الآلاف، وربما الملايين أثناء الصيف، لقضاء عطلات لا تزيد عن بضعة أيام، وكان تراجع الشاطئ والشارع الرئيسي الذي يفضي إليه، مع الاسكندرية عموماً مرتبطاً بصعود وجهات جديدة للطبقة الوسطى والأثرياء في الساحل الشمالي ومنطقة العين السخنة القريبة من القاهرة، وكانت فترة التسعينيات قد حولت الشارع في منطقة الصيف إلى أحد أكثر المناطق ازدحاماً في مصر كلها وعلى امتداد ساعات اليوم كاملة، فكانت محاله ومقاهيه تعمل على مدار الساعة بصورة فعلية ومن دون أي شبهة مجازية للوصف.
الجريمة المرعبة تختتم فصلاً مهماً من تاريخ الإسكندرية، وتسدل الستار على صورتها بوصفها عاصمة ثانية لمصر، وتجعلها ضمن مجموعة مدن الأقاليم المنسية، ذلك أن ثورة يوليو أغلقت نهائياً فرصة الإسكندرية لمواصلة موقعها كمدينة عالمية منفتحة، مع طرد الجاليات الأجنبية التي كانت تعتبرها البوابة الذهبية لمنطقتي أفريقيا والشرق الأوسط، والمعنى الاقتصادي والاجتماعي والسياسي لأفول الإسكندرية، التي أصبحت معقلاً للحركة السلفية في مصر، يتعلق باستراتيجيات تغول القاهرة واستهلاكها لطاقات الدولة المصرية، لتصبح المدن والمناطق الأخرى مجرد شواهد على الماضي البعيد لدولة كانت تتطلع لزعامة المنطقة ودول العالم الثالث، من خلال ثنائية الحقل والمصنع اللذين شكلا في مرحلة ما دافعاً لحيوية مدينة مثل الإسكندرية.
عصر الزومبي، هذا الوصف هو المفضل الذي يجده الكاتب وائل عبد الفتاح مريحاً لتفسير جزء من أزمة المجتمع المصري، والزومبي هم الموتى الذين يخرجون من قبورهم ليجوسوا في الشوارع ويهاجموا الأحياء بشهية انتقامية، والمجرم في حادثة الإسكندرية، أول زومبي يراه المصريون عياناً، ويشهدون ميكانيكية ممارسة القتل عنده ضمن مبررات كلاسيكية تتعلق بإقامة الحد على تاجر الخمور، ليحقق ما يعتبره العدالة وكأنه يحمل رسالة تكليف بذلك، فيقول: الشيوخ قالوا لي.. من هم الشيوخ، لا أحد يعرف، وتحت أي مبرر يمكن أن تصنف الجريمة، طبيعتها وملابساتها وتوقيتها، لا أحد لديه مجرد تفسير مبدئي.
جريمة اسطنبول خرجت من عباءة «داعش» وحملت البصمات التقليدية ووقعت في مكان لا يختلف كثيراً عن بنك الأهداف الاعتيادي للتنظيم، ويمكن طرح العديد من الأبعاد والتصورات حولها، بينما أتت جريمة الإسكندرية من الفراغ السياسي والتنظيمي، مجرد شخص ممسوس ومشوش جرت تغذيته بالكراهية في مجاهل التجمعات السلفية في الإسكندرية، التي كانت إلى حد بعيد فعلاً اجتماعياً لمواجهة العشوائية في المدينة، لتستبدل منظومة المنافع التي تديرها وترعاها الحركة السلفية بالدور الذي كان يفترض أن تؤديه الدولة التي أخذت في الانكماش، وكانت الإسكندرية الضحية الكبرى لانكماش دور الدولة والتركيز على العلاجات التلطيفية من دون التصدي لحلول جذرية لمشكلات معقدة ومتشعبة.
بينما كانت بوصلة الإخوان تشير إلى القاهرة لمنافسة الدولة العميقة على مقر حكمها والسيطرة على السلطة، وجدت الإسكندرية في المساجد السلفية إقبالاً على المبادرة الاجتماعية الغائبة، فكان احتضانهم في أنشطة رياضية وتربوية للمراهقين ينتزعهم من حافة الوقوع في الأنشطة الإجرامية، وقدمت المساجد السلفية الدروس الخصوصية بتكلفة قليلة، وبدون تكلفة أحياناً، وبجانب ذلك افتتحت بعض المساجد مراكز طبية صغيرة (مستوصفات) لتتحول إلى نقاط خدمية حيوية في المدينة، ولكن الأمور خرجت عن مسارها مع بداية التسعينيات، فهذه المراكز كانت تتحول إلى بؤر استقطاب لكل حالات الغضب والإحباط، ومع أن سلفية الإسكندرية كانت تدرك طبيعة المدينة وانفتاحها، وتحاول أن تنغلق على نفسها وتبني معازلها السكانية، إلا أن كثافة وعشوائية الهجرات الريفية للمدينة، وتراجع أنشطتها الاقتصادية لمصلحة الاستثمار في القاهرة وتعزيز (دار الحكم) وقبضتها على الدولة، كلها عوامل أسهمت في نزعة للعنف لم يكن لقيادات السلفية القدرة على التعامل معها، خاصة أنها اندفعت في اتجاهين الأول، التنظيمات المتطرفة التاريخية في القاهرة والصعيد بما وجدته من تربة خصبة لبذرة العنف في الإسكندرية. والثاني التائبون الجدد الذين يلوذون بالجماعة السلفية من أجل تجاوز ماضيهم الشخصي والبحث عن منفس (محترم) للاستمرار في ممارسة العنف، ويمكن أن تدلل تجربة أبو مصعب الزرقاوي على أن العنف أمر منفصل إلى حد ما عن مدى القناعات الدينية.
المجرم في حادثة الإسكندرية يعبر عن المجتمع العشوائي أكثر مما يعبر عن تيار ديني، عالم المستضعفين إذ يتلبسه وهم القوة والسيطرة، فالقاتل، بائع الحلويات الأمي البسيط اقتنص هدفه في مسعاه لإصلاح العالم على طريقته الخاصة من بين فئة مسالمة ومنكفئة على ذاتها، تمثل بقايا البرجوازية التجارية الصغيرة، وتجاهل بالطبع تجار المخدرات الذين يمكنهم أن يوفروا لأنفسم كل غطاء وحماية.
عامل التطرف الديني يسهم بصورة جذرية في التشجيع على العنف، لأنه يمنحه الصفة التطهرية التي تجعله يتسامى على الجريمة العادية، ولكنه ليس السبب في جريمة كالتي حدثت في الإسكندرية، والإيغال في ثقافة الزومبي متطلب ضروري وإجباري بدلاً من ترديد الدعاوى الجاهزة والمريحة، وتجاهل كل ما تنطوي عليه من مغالطات ومفارقات منطقية وواقعية، والمرحلة المقبلة ستشهد نشوراً للكائنات المشوهة في شوارع المدن العربية، التي تتهاوى من داخلها بصورة بطيئة تحت وطأة غياب المجتمع المدني الحقيقي، بينما ينتظر الجمهور العربي الدولة لتقوم بأدوارها في زمن تراجع الدولة، بسبب المتغيرات غير المدركة أو المحددة جراء التطور التقني والتواصلي. ..........
* عن "القدس العربي"