كرام ولكنا مفاليس
كتب : محمد الديرية*
* محمد الديرية طبيب وكاتب صومالي يصف الأردن والأردنيين في مقال جميل تحت عنوان كرام ولكنا مفاليس، يقول فيه :
- كنت قد أخبرتك عن أيامي في افريقية .. وكتبت لك عن السودان وأهله .. وقد شمألت بي الأيام فرمت بي عبر الأردن .. أي شرق النهر لا غربه .. وكانت وقت قدومي آخر ما بقي من تلك البلاد .. فلم أعبر باتجاه دمشق وهي حاضرة الشام وجنة أهله ومنارة القاصدين قبل ذلك العام .. وجرت عادة أهل تلك الديار أن تطلق الشام على دمشق لا على سائر شمال العروبة كما درج أهلونا في لسانهم, ولعل في هذا تشويقاً لك وحرماناً لمن اقترب ولم يصل .. وعلى أية حال فأن تسافر جيداً خير من أن تصل كما قال بوذا يا بني.
أتيتها جواً فلم أبصر مائاً من عل .. وكان الوقت ليلاً فلفحنا برد لطيف كأن نسيمه جو الطائف أو صبا صنعاء .. واصطففنا صفاً طويلاً من العرب وكثير من الأعاجم .. يقدم الواحد منا على عربي يستلم جوازك ويبتسم اقتضاباً كمن رابه شك فلم يتأكد منه بعد .. ثم أمرنا بوضع أعيننا على جهاز يبصر في انسان عينك ضوئاً لم أعهده من قبل .. وسألني عن سكناي فما احترت ولا ترددت .. ناولني الجواز ثم قال لي : مرحباً بك في الأردن.
وقد وجدت بلادهم نظيفةً يشدها الغلاء , جبليةً قليلة الخضرة والماء, جل عمالها من مصر المحروسة, صحة الناس بادية في ملابسهم وألسنهم بها مزيج من رقة الشام وجفوة أعراب الجنوب .. على أن أصواتهم عميقة القرار كمن دلق في حلقه فنجان قهوة خالي السكر .. يحدثك الرجل منهم فتظن نفسك أمام شاشة الأخبار.
وأرضهم غير مبسوطة , فلا تنزل من جبل إلا وتصعد أخاه , ذكرتني بكمبالا عاصمة يوغندا ونيروبي ومدناً أخرى مررت بها ولست أذكرها , بنيت على سبعة جبال فوق سبع أراضين, وقد درجوا على استغلال كل متر في بيوتهم, ففي ناصية كل بيت موقف للسيارات يكون جزئاً من أرض الباني, ومطل على الشارع يدعى الترس يستغلونه عادة حين يطيب الجو ويحلو السمر فيلقون السلام على العابرين أو يدخون الأرجيلة في جلسات جماعية, وهم قوم يقدرون الكيف والعصاري ويشربون القهوة سائر الصبح, ولم أجد للشاي في أرضهم ميزه, غير أنهم مدخنون ولا يجدون غضاضة في تقديم السيجارة كجزء من تقاليد الضيافه ولا يكاد يخلو مكتب أو صالة انتظار من منفضة السجائر.
والمدينة مبنية على نظام انجليزي عتيق في جعل حركة السير دائرية مربوطة بسلسلة من الأنفاق .. الاشارات الضوئية قليله والأولوية في الدوار لمن قوى قلبه وأغمض عينه وكاتف الآخرين .. على عبوس في ملامحهم وإن لم تخل أرواحهم من طيبة لاينكرها إلا جاهل أو عذول.
وهم قوم عمليون جداً , ورثوا عزيمة رجال الجبال ودهاء التجار من نابلس ودأب الفلاحين جهة الشام, يستيقظون باكراً ولا يجدون وقتاً للقيلولة أو نوم النهار, يعمل الرجل منهم في وظيفتين, وإن سألتهم عن عبوس ملامحهم وكشرة نزلت فيهم أخبرك الأردني أن غلاء المعيشة لا يترك فرصة لشيء إن كان من أهل المدن, أما إن كان من البدو افتخر وقال لك أن الكشرة مهابة .. ومن ثم يطلق ضحكة الواثق من كذبته البيضاء.
وقد يطول حديثي لك عن عمان .. لكنك لن تجد الإنسان الحقيقي في مدينة ضمت كل نكبات العروبة كبيت قديم يلجأ إليه من غير تردد كل من ضاقت به أرض عربية ..
لكن الأردن لا يشبه الأم كمصر أو العراق أو حتى اليمن .. ولا يشبه أباً طويل القامة مجروح الكتف كسورية الحبيبة .. يقع كجغرافيته تماماً مكان الأخ المتزوج من ابنة عمك .. لاتتردد في طرق بابه ولكنك لاتطيل المكوث حيائاً أو خجلاً أو عودة لاتجاه جديد .. إذ يصعب الحديث عن الأردن دون التفاتة باتجاه فلسطين .. كل شهقة هنا مقدسية الهوى .. ولا تقابل ثلاثة دون أن يكون اثنان بقاف محكوكة الأطراف من طولكرم أو مد كحزن ليل الخليل .. وإن سألت تكسيا عن أصله فأجابك أنا من مواليد عمان فلا تستغرب .. لكن إن قال لك من سحاب أو من شفا بدران أو حتى من وادي السير فتمهل .. ما زالت عشيات وادي اليابس ببعيدة عن فم عرار.
وقد تطورت المدينة بعد اجتياح الكويت .. عاد الفلسطينيون محملين بجراح على أطرافها رؤوس أموال وكفائات افادت البلد واستفادت منه .. كل نكبة عربية تبات أول ليلة في مطار الملكة علياء بالأردن يا بني .. ومن ثم ازدهرت بعد اجتياح العراق واحتلاله .. وعلك سامع هذه القصة ألف مرة ولو قدمت عمان بعدي بألف عام .. والحديث عن السوريين وملاجئهم شيء يدمي القلب ويسافر ناياً حزيناً باتجاه أقدم عاصمة للدنيا .. يبات بنوها في مخيمات وزعت بإتقان على أطراف الصحراء .. وإن يكن الأردنيون قد استضافوا الليبيين جرحى والسودانيين مرضى واليمنيين طلاباً وأصحاب مطاعم .. إلا أن يدهم وصبرهم كان أطول مع نكبات دول الجوار .. ابتدائاً من اقتتال الأخوة الأعداء في لبنان وطائفية ما بعد سقوط صدام وجنون بشار وإجرامه في حق شعبه.
وقد زرت المخيمات الفلسطينية في بيروت وشتان بينها وبين دور الفلسطينين بعمان .. هذا الرقم الوطني يتقاسمونه في هذه البلاد كما يتقاسمون فنجان القهوة وصوت فيروز على الصباح .. لكن الفلسطينين مسكونون بالعودة ومتذمرون من المحسوبية والبطالة في بلد شحيح الموارد من أساسه .. وهذا لا ينفي أن يكون منهم رؤوس أموال ضخمه وأساتذة أفذاذ .. لطالما كانت النكبة ثقباً أسود في رئة كل عربي .. لكن هذا الانسان الجبار طوعها شهادات واستثمارات وإنساناً صعب المراس .. عائلاتهم معروفة غير ممتده .. وفردية الفرد منهم عالية .. قد تعاني معهم لكنك تعود رافع القبعة له أول المساء .. لطالما قلت أن كل الشعوب التي مررت بها كانت سهلة الوصف .. منداحة المتن لعين عابر قديم .. لكن كيف بربك تصنف شعباً قطعت أرضه لأربعة أجزاء وشتت في المنافي ووقف بنوه طويلا أمام كل ضابط جوازات ؟!
والمخبرون في هذه البلاد معروفون بسيماهم .. تشم رائحة المصدر وهو يجرك لسؤال عن آخر رفع لأسعار البنزين .. وتحترم ذكاء المخبر حين يعرف نفسه بضابط في المخابرات بعكس كل الدول العربية, وأنت يا بني إن جئتها محتاج لشهادة حسن سيرة وسلوك في كل معاملة حكومية .. لكن للأمانة لن تجد احتراماً في وزارات وطنك كما ستجده وأنت تتوه وتسأل ضابطاً أردنياً عن طريق بديل أو تحلف له باستعجالك وهو يقسم ويطلق زوجته مرتين إن لم تنزل لتقاسمه قهوة سوداء أو – يكسبك – كما يقولون هنا في منسف ساخن أعدته العائلة قبل قليل.
وعلى ذكر المنسف .. مر داعية تلفزيوني – وهو رجل لن تذكره الأجيال على أية حال – لافتتاح معرض الكتاب بعمان , تخيل أن يأتي داعية تلفزيوني ليفتتح معرضاً للكتاب في أرض أنبتت عرار وكتب عنها عبدالرحمن منيف وسجن لأجلها هاشم غرايبه لعشر سنين .. ثم دعي – كعادة الكرام هنا – إلى منسف أردني .. لحم مطبوخ بلبن أمه كما وصفه المسيح وهو يوصي بتجنب أرض البرابرة كما جاء في العهد القديم .. يرتكز شامخاً على أرز أبيض .. شيء تدخل يدك فيه فلا تخرج إلا مدسمة الأطراف مشرئب العنق بلبن ثخين مالح يدعى الجميد, ويزدان كل هذا بخبز يدعى خبز الشراك على أطرافه فيأتدم اللحم بالخبز ويمسي أقرب لوصف حسان بن ثابت رضي الله عنه حين مدح الثريد فقال :
إذا ما الخبز تأدمه بلحم : فذاك أمانة الله الثريد
دعي الرجل إلى مأدبة القوم .. وهم يأكلونه وقوفاً احتراما للحم وخوفا على الضيف من الشبع, ويأسرونك بالحديث حتى تصافح مقابلك على كف كسيت بالخبز والحب ومرأى وجوه النشامى .. فما استساغ الأكلة وذمها قائلاً : ليتهم قدموا لي شاورما, وتلك وأيم الله منقصة للحر .. أن يذم طعام ضيفه, وما فعل ذلك أبو القاسم بأبي هو وأمي، ولا زاد على أن قال : لم يكن بأرض قومي فآكله.
وقد جلت ديارهم فما أوقفني عسكري ولا طلب مني اقامة أو تأخرت معاملة لي في دائرة حكومية, اللهم إلا ما كان من مدخل ضيق لميناء يدعى العقبة, أوقفنا فيه مخبر عتيق وتناول اثباتي وصديقي اليمني ثم بدأ بإرسال رسائل مبطنة عن الربيع العربي واستقرار الأردن, ولمزنا باضطراب بلداننا, فما كان منا إلا أن سألناه لماذا لم يوقفنا حر في طريقنا للشمال ولا استجوبنا بدو الجنوب الكرام بينما تقيم مدخلا ضيق الفوهة على حدودنا مع ايلات ؟.
وقد شمألنا فنزلنا اربد وألقينا نظرة أسى المخصي على فلسطين المحتلة وصافحنا درعا الكرام بالعين دون اليد .. واستضافنا فتى من العمرو يدعى الأمين الربيع .. ولعمري إن وجهه الربيع وقرى ضيفانه البشاشة واصطفاف شيوخ العشيرة للاحتفال بشاعر سوداني نال جائزة الشارقة لهذا العام يدعى محمد عبدالباري، ويماني وجهه ينوب عن قبيلة في المغنم والمكره، وسعودي كريم جاء من بعيدة ليتم عقد العروبة التي لا تنتظم إلا برائحة عرار نجد ..
وإنك إن جئتها لواجد هوائها من أطيب هواء الأرض .. وأرضها جبالاً كسيت بالخضرة كأن طفلاً أحبه الله دار بالياسمين فحفها حفا, وتخالك تمشي في أرض العروبة حين تمشي بالدروب فلا تميز الشامي من المصري إلا في مطعم عراقي أو ناصية يمانية, على أن القوم مليئون برموز التعظيم وألفاظ التبجيل لكبارهم, فينادون أكبرهم بالعطوفة وأصغرهم بعامل الوطن كناية عن القائم بتنظيف الشوارع, ويدعون المراسيل بينهم بالمكاتيب, ولا تكاد تجد عجمة رغم وجود الشركس والشيشان والأكراد بينهم, كأن هذه الجبال ضمت الجميع ضم الأم فما عاد ثمة غريب ها هنا.
إلا أن الفطين ليألف تباين القوم سياسيا وجغرافيا وعرقيا بتمايز أهل المدن والتحضر .. يكفي أن تعرف الفريق الذي يشجعه مقابلك حتى تضع اصبعك على جهة في الخريطة, وإن وجدت شيخاً بعمامة نقطت بالأبيض والأسود فلا تظنن لهجته كلهجة صاحب الشماغ الأحمر .. وغني أنت عن سؤال أهل الدار منبتهم إن قربوا لك مسخناً أو اصطفوا جوارك لمنسف.
ولا تغادرها قبل أن تصعد عجلون ,,تلك العدن,, حيث لو ولد فيها أعجمي لأمسى شاعراً, وزر قلعة صلاح الدين وإن كنت من أهل الكيف فلا تفوت شرابا يعتقه الربضية من مسيحية تلك الديار.
وقد وجدت سماحة نصارى الشام ها هنا .. تعرفهم بأسماء عوائلهم وصليب يتدلى من أعناق بعضهم .. يتنقلون بين التجارة والطب مهنة سيدنا المسيح عليه السلام، وهم كرام كبقية القوم, يكسبون الضيفان ويصلون الود, ولا تشعر معهم بتلك الجفوة التي يجدها المسلمون عادة من بني مذهبهم من الشيعة مثلا.
وغض النظر إن مشيت في تلك الدروب .. حيث جمع الله لنسائهم فتنة الغرب ونطق العرب .. فإنهم مشهورون بغضبة للمحارم ولين للغريب, وقد يذهب الفتى منهم قتيلا فيدفن على فنجان قهوة إن جاء بالعار, غير أن عمان مليئة بدروب الهوى وهي لاتخفى, لكن ذلك ليس سجية أهل البلد ولا يريدون يوماً أن تكون ديارهم مقصدا للفحش والخنا وإن لم تخل منها.
واشغل نفسك بالتنزه والمشي في دروب اللويبدة حيث البيوت العتيقة واصطفاف الورد على جدران سكانها الطيبين, وانزل لهاشم فقد ورد في الأثر عن صديق قديم : من زار الأردن ووقف بجوار العلم فما زارها, ومن تصور في مطعم هاشم فقد جاء عمان وإن لم يزرها !
وجر القدم باتجاه حبيبه وصف مع السادة الفقراء طويلا بوسط البلد, حيث الكنافة التي لا مثيل لها في كل الجهات, ثم اشرب شايا في مقهى السنترال الذي أنشيء سنة 1930م وكان مجمع الشيوعيين طويلا حتى بات شبيها لتاريخهم بقدمه ونتوء جدرانه وصوت أم كلثوم الذي يتنهد ولا يكاد يبين, واطلب مقعدا – كعادتهم – على ترس ذلك المقهى أو بلكونته وتأمل مليا المكتبة الأهلية وأقدم مقر لجماعة الإخوان المسلمين كبرى الحركات الاسلامية المعارضه أمامك مباشرة.. وتذكر وجه المخبر في مدخل العقبة ويداً مدت لكريم على سدر منسف وصوت ماجدة وهي تغني : أعود وكلي حنين, وتذكر صليباً على صدر سمراء من قوم عيسى وضحكة عراقي حزين في مشرب ليس بعيداً كوجه مظفر, واقلب صفحتي هذه حال وصولك واقرأ على صدرها رداً لعرار حين وضع قرشاً من ذهب في سنة المجاعة وكتب على ظهره أجمل وصف لأهل هذه الديار الجميلة :
الله يعلم والأيام شاهدة : أنا كرام .. ولكنا مفاليس.
............
عن الصفحة الشخصية للزميل الصحفي «نايف المحيسن»