جدّتي خضرة واليوم العالميّ للمرأة
كتب : باسل الرفايعة
لَمْ تسمعْ جدّتي خضرة بنت رفيع باليوم العالميّ للمرأة، فقد كانت لها أيّامها العظيمة، كشأنِ النساءِ القويّات، وها أنا أستعيدها من كتابةٍ، سابقة. فقد كانت امرأةً، مثلَ دولةٍ مستقلّةٍ، بجيشٍ جبّارٍ، يردعُ الطامعينَ والمتنمّرين.
كانت خضرةُ الأسطورةَ التي مرّت في وقائع الآخرين. مرَّ الطيفُ في أحلام الزعارير، وعلى بيادرَ، تنثرها شواعيبُ، ويحرسها عشٌّ في عرزالٍ بعيد. يا لي من حفيدٍ، يكتظُّ بشقوق الرواية، وبفِخاخٍ منصوبةٌٍ كسجعٍ يظنُّ المطربُ أنه قافية، أو ايقاعُ حكايةٍ شعبية.
خضرةُ امرأةٌ من رسومٍ ووشومٍ، حاولتُ كثيراً توشيحَها بالغموض والرموز، وقلت لها: مُرّي في الليلِ هزيعاً، وإِيَّاكِ من الوقوع في القصِّ والنصِّ، فتكونينَ حجراً وشجراً في غابة. أعني أيَّة غابة.
خضرةُ بنت رفيع بلادٌ حرةّ ومستقلة. وليسَ ذَلِكَ من طبائعِ البداوة والفِلاحة. إنه من بأسِ نساءٍ نافراتٍ من الشكل والنمط والتنميط. خضرةُ إحداهنّ، فكيفَ للذكور أن يفرضوا قوانينهم على امرأةٍ، لديها بنيةٌ عضليّةٌ، وروحٌ تكسرُ الايقاعَ العامَ، وتنفرُ، مثلما تنفرُ النمراتُ، حين يباغتها الخطر.
لخضرةَ وجهٌ مدقوقٌ بالوشوم، وذراعان مشدودتان، وقامةٌ مربوعةٌ، وخبرةٌ في الطبّ الشعبيّ، ونفوذٌ طاغٍ في الدروب الترابية بين البيوت. لم يُولد طفلٌ في قريتي بئرخداد إلا على يديها. ليسَ بمقدور الرجال أنٍْ يذهبوا في عصيانِ امرأةٍ يحتاجونَ فراستها، وقدرتها الخارقة على البشارة. إنها القابلةُ الشرعيةُ، دون جدالٍ. تلدُ الحواملُ لمجرد أنْ تضعَ الماءَ الساخنَ في القِدْر، ويأتي المخاضُ سريعاً، لأنها تغضبُ من «دلَعِ الولاّدات» وطولِ بالهنّ. لا مساحةَ للتمتُّعِ بالدلال، حين تسيطرُ خضرةُ بنت رفيع على غرفة الولادة. سحبتنا جميعاً من أرحامِ أمهاتنا، ومنحتنا الحياةَ كما تشتهي. تقطعُ حبلَ السُّرةِ سريعاً، وتهتفُ لمن جاءَ، والويلُ لمن «يسودَّ وجهه» حينَ تبشرهُ بالأنثى. لا يُرِيدُ الرجلُ في بئرخداد أن يبدأ خصومةً خاسرةً مع خضرة بنت رفيع.
أكثرُ من قابلةٍ كانت. هي طبيبةٌ، درست الطبَّ في الجبال والأعشاب والتراب، وعرفتهُ امرأةً وَأَمَّا. تُداوي انعدامَ الشهية، وبطء النموِّ، والفتقَ في الحجاب الحاجز. لديها جبيرةٌ من البيض والطحين على البطن، بأسرارٍ محجوبة.
تأخَّرَ نموُّ شقيقي عليّ، فاخترعتْ له الدواءَ. شخّصتهُ بأنه «مجعوم». جاءت بلحمِ طيرٍ، ودقّتهُ في جُرنٍ حجريٍّ، ثمّ ضمدتهُ مع عجينة الحلبةِ على بطنِ عليٍّ. مِثْلَ معجزةٍ، تعافى الولدُ، واشتدَّ عوده، وأصبحَ أطولنا قامةً، ونجا. ألمْ أقلْ إنها معجزةٌ. تلكَ من روايةِ الأحياءِ، ومن ترتيلِ الحكايةِ في خرافةٍ بعيدة.
أسوأُ أيامِ خضرة، حينَ كانت تضطّرُ إلى شجارٍ مع النساء. إنها حربٌ ينقصها التكافؤُ، وتفتقدُ إلى النديّة. تُفضِّلُ كسرَ شكيمةِ الرجال، وتذليلَ الطغاةَ، بضربةٍ مؤلمةٍ من عصاها. كانَ هناك رجلٌ طويلٌ يهزأُ بالرعاةِ على البئر. ويهشُّ شياهَ خضرةَ وغيرها، لصالحِ أغنامهِ. انبرتْ له، والتقطتْ حجراً ملموماً، وصرختْ بما هو صدمةٌ وترويع: «والله لأخلّي البينْ يصرخْ عليك»، وتلك استعارةٌ لا شرحَ لها. فقد حذفت خضرةُ المشبه به، وأبقتْ شيئاً من لوازمه، على سبيل البلاغة القروية، وضربتهُ بين العينين، فهوى مضرّجاً بالغرور.
تلكَ خضرةُ التي ولدتْ طفلها في الحصيدة، وعادت إلى منجلها، بعد ساعات. وكانت تحنو على الضوءِ، وفوانيس الكاز، ويخشاها الجنُّ في الكهوف. يحسبُ حسابها الماردُ، قبل العشاء. حتى الغولةُ كانت تبسطُ ذراعيها تحتَ أقدامها، وتنام..