كل عام وأجراس ديركم تصدح بالخير
كان لدير اللاتين في شارع الفاروق بالزرقاء قبيل أواسط خمسينيات القرن الماضي مهابةً وتوقيراً عظيمين في نفوسنا أبناء الحارة الشامية شمالي جامع العرب بالزرقاء المحرومين من فرصة الانضمام إلى صفوف الروضة والمدرسة المتقدمة في ذلك المكان ذو العمارة الجميلة والأبراج المقوسة حيث يخرج من بوابته عصراً طلاباً وطالبات فرحين مهندمين مستبشرين تشي ملامحهم بالرضى عما يتلقون من معرفة وتعامل غير متاح لنا نحن أبناء الآباء العسكرين البسطاء المسلمين المتحكمين بقرار «أين ندرس وأين نتعلم».
وعليه كنت مجبراً على الانصياع لقرار أولياء الأمر بالذهاب إلى «كتاتيب الشيخ عبد المنعم-خطيب جامع العرب» وزوجته المنقبة شبه العمياء، التي لا تحرص إلا على صمتنا المطبق وإخراسنا وعدم إزعاج الشيخ الذي سيعلمنا القراءة والدين والحساب، وأنها ستسجل أسماء من يخالف النظام ليعاقبهم الشيخ عند إطلالته بجثته الهائلة ولحيته الكثة وعضلاته المفتولة وصلعته الصخرية الشكل وصوته الهادر المرعب، إلى أن شاء قدري أن يكون إسمي على رأس قائمة المشاغبين التي وضعتها «المنقبة شبه العمياء»، فكان أن «شبحني» الشيخ الغليظ ذلك الصباح شديد البرودة، وأنا في الرابعة من العمر، فلقة بالخيزرانة الغليظة على باطن قدماي المربوطتان بحبل «المصيص» وقبضتا تلميذين متمرسين، ما أدى إلى أن أفعلها على نفسي، فأمر الشيخ «الإنسان مشكوراً» بإرسالي إلى أمي لتغسيلي مما حدث، .. وقد اغتسلت فعلاً عضوياً ونفسياً؛ حيث رفضت العودة لكتاتيب الشيخ الجلاد رحمه الله مهما كانت النتائج والعواقب.
وحينما سألتني أمي «وين أوديك يا ولد» أجبتها.. بدي «دير اللاتين»؛ يما هاى المدرسة مش إلنا.. هيك أبوك بيقول، .. واستمر إضرابي عن العودة لكتاتيب الشيخ الجلاد «عبد المنعم»، فكان الحل الوسط أن أرسلوني إلى روضة السيدة «فايزة الدرزية».. وهناك كان الفرج والفرح، حيث بدأت بمعرفة أول حروف الهجاء النفسي السليم من حيث التنوع الجندري والانساني، حيث ندرس بنين وبنات ومعلمتنا سيدة جميلة الهندام والقول والفعل والمحيا، ولا تحمل الخيزران، وتغني الأناشيد، وتتلو الآيات المسبحات للرحمان الرحيم، وتشاركنا القراءة في كتبٍ مزينة برسوم جميلة ملونة.
ولكن شغفي لم يتحقق بكامله، حيث ظللت أردد ليتهم لبوا رغبتي في «دير اللاتين».
كل عام وأجراس ديركم تصدح بالخير