غازي السعدي.. اي فراغ تركته
كتب - سامح المحاريق
أتت الثورة الفلسطينية بوصفها جزءاً من حركة انسانية شاملة حاولت أن تؤسس لمرحلة جديدة من تاريخ البشرية بعد الثمن الباهظ الذي خلفته الحرب العالمية الثانية، ووصلت هذه الحركة لذروتها في نهاية الستينيات مع تيقن الثوار والحالمين باستغلاق كل أمل وطريق أمامهم بعد الصفقات الكبيرة التي دشنت عصراً أمريكياً منفراً ومتسلطاً وعنجهياً، وبينما كان الشباب في قوس يمتد إلى اليابان إلى فنزويلا ويعبر بنجلاديش وتركيا وألمانيا وفرنسا يتعاطفون مع القضية الفلسطينية ويلتحقون بثورتها، كان أحد الذين بدأوا فعل المقاومة مبكراً يقضي سنوات عقوبته الطويلة لممارسته حقوقه في التمسك بهويته ووطنه، فقبل أن تنطلق الثورة كان غازي السعدي يعبر عن الطلائع الأولى لحالة الغضب الفلسطيني ويرفض الهوية الجاهزة والزائفة التي خلعتها عليه دولة الكيان الصهيوني من أجل تقديم نفسها كياناً تقدمياً وديمقراطياً، تمسك السعدي الذي وجد نفسه ملتحقاً في عمر مبكرة بالمدارس العبرية بحاسته وفطرته التي استطاعت أن تلفظ المنطق الصهيوني على الرغم من كل ادعاءاته وفخاخه، وفي شبابه أخذ السعدي يتحول إلى حلقة الوصل بين فلسطينيي الخارج الذين يبحثون عن فرصة الثورة وأهل فلسطين المحتلة سنة 1948، وبذلك تحمل التكلفة الباهظة، وظل بعد سنوات طويلة يقابل العالم بنفس ابتسامته الراضية والعميقة وبذات الثقة المليئة بالإيمان والحكمة.
التقيته مرتين في الفترة الماضية المرة الأولى في بيت عزاء، جالسته قليلاً وطرحت أمامه قلقي من تراجع الترجمات من العبرية والدراسات حول الحركة الصهيونية، وعبرت عن مخاوفي مما يشبه مخططاً شمولياً من أجل البحث عن شخصية اليهودي الضحية، ومع أنني لا أنكر وجود هذه الشخصية، ولكن في الوقت نفسه أرفض أن أتحمل ميراث عقدة الذنب، فالفلسطينيون في النهاية لم يرتكبوا المحرقة ليدفعوا ثمنها، وما يحدث اليوم هو إعادة تقديم لليهودي من خلال الأعمال الروائية والدرامية وكأنه هو الضحية، وأن علينا أن نتكاتف جميعاً من أجل تعويضه، بينما الفلسطيني فهو الإرهابي والهمجي والنمرود وما إلى ذلك من أوصاف، كنت أسترسل في الحديث مع الرجل الذي أعلم أنه يعرف الحقيقة وأنه واحد من حراسها وحوارييها، واستمع لي مهتماً ولكن لم يظهر عليه أي قلق أو توتر، ولم يشاركني هواجسي ومخاوفي، ولم ينسق لممارسة الحماسة المفرطة، بدا مثل معلم قادم من خلوات كشمير والهيملايا، واتفقنا على لقاء آخر.
استقبلني من مكتبه، مع الصديق ناصر قمش، وبدأت أحاول أن أسحبه للحديث عن واقع دار الجليل وعن مشروعه الشخصي والمعرفي الذي قدم من خلاله العديد من الترجمات المهمة التي قدمت رؤى الزعماء المؤسسين للصهيونية والقادة السياسيين الأوائل في الدولة الصهيونية، وبدون نبرة الشكوى الاعتيادية أفادني بأنه يقاوم من خلال وجوده، يحاول أن يبقى لأن ذلك وحده جزء من الذاكرة التي يجري اغتيالها بصورة حثيثة ومنهجية، فبعد أن كانت دار الجليل مشروعاً وطنياً فلسطينياً بامتياز حظي برعاية الرئيس الراحل ياسر عرفات ومعه القائد الوطني خليل الوزير، وبمباركة الدولة الأردنية ممثلة بالملك الحسين، أصبحت كل تجربة المقاومة الثقافية خارج حسابات السلطة الوطنية، واستصدر الرئيس محمود عباس قراراً بوقف الدعم ليس لدار الجليل ولكن لجميع المنابر الفلسطينية الأخرى، فالسلطة أصبحت هي المنظور الوحيد للوجود الفلسطيني كما يراه عباس حالياً، بينما كان عرفات يعتبر نفسه مسؤولاً عن قضية أممية وعربية، ويقدم نفسه زعيماً تاريخياُ للفلسطينيين مسؤولاً بصورة شخصية عن الجميع، في الداخل بمفهومه الشامل ضمن فلسطينيي 1948 والضفة الغربية وغزة، وفي الشتات كله، ودار الجليل مشروع كان ينتمي للذاكرة الفلسطينية وللمقاومة في معناها الواسع، وهو لا يتعايش اليوم مع الحسابات السياسية الضيقة والمرحلية القائمة.
السعدي ظل يتملكه الحنين لجميع فصول حياته، ويبدو على الرغم من العناء والتعب مستعداً لأن يعيد تجربته المرة بعد الأخرى، بكل سنوات النضال والحبس التي انتهت بتزويده استثنائياً بجوازات سفر أردنية له ولأسرته بمجرد خروجه من السجن تقديراُ لدوره في العمل على ساحة الداخل، وبرحلته الصعبة مع تأهيل دار كاملة للترجمة والدراسات قدمت الكثير للدارسين المهتمين بتشخيص العدو وفهمه ومواجهته بالتالي، فالدكتور عبد الوهاب المسيري صاحب الموسوعة الأشمل لتاريخ اليهود والحركة الصهيونية وجد في دار الجليل بيئة مناسبة وحاضنة وايجابية في أجزاء كبيرة من موسوعته، ووجد في تمكن السعدي من اللغة العبرية وفهمه لطبيعة تعقيدات وتراكمات الشخصية اليهودية والصهيونية مرجعاً يعتد به في الحوارات والنقاشات التي وصلت بهذه الموسوعة لتصبح مرجعاً أساسياً في موضوعهاً.
السعدي يبدو في حالة سكينة نفسية ورضا عن الذات، ومع كل التراجعات في المشروع المعرفي والوطني، إلا أن ثقة عميقة لم تبارح عينيه وكأنها ترى بحر عكا على الدوام، تراه صافياً وهادئاً وحنوناً ومتسعاً، وترى العودة مسألة وقت لا أكثر، وقت يمكن أن يكون بعيداً ورحلة هي صعبة بالضرورة، ولكنه أحد الذين وضعوا العلامات على الطريق، ويعرف أنه وضعها بكل إخلاص وصدق، وأنها لن تضلل من يسيرون على الطريق ويتطلعون لعبوره.
رحمك الله ايها الكبير فقد افجعنا غيابك ولكنه ترك لنا ارثا خالدا وللاجيال من بعدنا.
- عن "الاصلاح نيوز"