عواء الذئاب ووحش الجموع
كتب : سامح المحاريق*
أقل من عام واحد يفصل حادث الدهس في نيس الفرنسية عن الحادث الذي استهدف المصلين الخارجين من المسجد في فينسبري بارك في لندن، الفرق في أعداد القتلى كبير للغاية، فالحادث في نيس استهدف أجواء احتفالية مزدحمة، بينما كانت واقعة لندن محدودة، ولكن ثمة فارق خطير في شخصية المعتدين، فهذه المرة تنتقل صفة الإرهابي إلى الجانب الآخر، بتورط بريطانيين متعصبين ضد المسلمين والمهاجرين في العمل الذي وصفته الحكومة البريطانية بالإرهابي.
الحادث ليس جملة اعتراضية، وهو أقرب إلى جزء من لعبة بازل كبيرة أخذت تتضح ملامحها الأولية، فمنذ فترة ليست بالبعيدة لقي شابان أمريكيان مصرعهما أثناء الدفاع عن امرأتين مسلمتين، تلقتا الإهانة من مواطن أمريكي متعصب، وبعدها لقيت فتاة مسلمة مصرعها في ولاية فرجينيا، بعد أدائها (Kristallnacht) لكثرة الزجاج الذي تحطم أثناء الهجمات، التي شملت العديد من المدن الألمانية والنمساوية، واحتلت هذه الليلة مكانها ضمن ما يسمى بذاكرة الهولوكوست في أوروبا، الذي أسفر عن نتائج كارثية على يهود أوروبا، بحيث أنهى وجودهم، بوصفهم أحد مكونات أوروبا منذ عصر الأنوار. لماذا يفترض العالم أن الأوروبيين بشكل عام تحولوا إلى كائنات مدجنة وأليفة ومتسامحة للغاية؟ التاريخ لا يمكنه أن يستقبل هذه الصورة الوردية بكثير من السذاجة، فالأوروبيون مثلاً واصلوا ارتكاب المذابح في الجزائر حتى الستينيات من القرن الماضي، ولم تكن محطة النازية والفاشية لتمثل لهم أدنى مشكلة، وهم يمارسون القتل والتنكيل في طول الجزائر وعرضها، والفرنسيون ومعهم الأمريكيون لم يترددوا في ارتكاب الفظائع في فيتنام بعد ذلك.
لم تكن المذابح الصربية في البوسنة والهرسك مجرد أحداث طارئة على الثقافة الأوروبية، ولنترك جانباً حديثنا عن أوروبا الشرقية والغربية، فالحديث عن مكونات ثقافة لا يمكن أن يتوقف على تباينات جغرافية أو فوارق سياسية، فأوروبا الغربية مجرد مصطلح فضفاض مثل أوروبا الشرقية تماماً، وبودابست كانت ذات مرة ضمن قلب أوروبا، وبميل واضح نحو ما يمكن وصفه بأوروبا الغربية، ومرة أخرى كانت في منظومة أوروبا الشرقية، وفي النهاية كلا الوضعين لا يؤثران جوهرياً في قناعات رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، ذات الطبيعة العرقية والمعادية للأجانب والمهاجرين واللاجئين.
حادث صغير ولكنه يستعيد نبوءة السياسي البريطاني اينوك باول، حول أنهار الدماء التي ستنتجها أزمة المهاجرين من المستعمرات السابقة إلى بريطانيا، ومع أنه حتى رحيل باول لم تكن الهجرة اتخذت طابعاً دينياً، وبقيت ظاهرة اقتصادية واجتماعية، إلا أن أحداً لا يمكنه أن يستبعد أن مشكلة المسلمين في أوروبا يمكن أن تتحول إلى مجرد واجهة لأزمة الهجرة لمشكلة أوروبا الوجودية الراهن، واختزال كل مشاكل أوروبا في وجود المسلمين.
يرى الدكتور عبد الوهاب المسيري، أن الصهيونية مثل النازية تماماً ابنتان شرعيتان للحضارة الأوروبية، ولنقل بأن التطرف والتعصب اليوم هما نتيجتان طبيعيتان للحراك في أوروبا، وأن الأمر سيرتبط كلية بوجود الأزمة الاقتصادية، وسيكون إيقاعه مطرداً مع تفاصيلها، ولا يعني ذلك أن التحول الأوروبي للرخاء من جديد من شأنه أن يحرك سلوك الجاليات الإسلامية نحو المهادنة، ذلك أن سياسات الإدماج الاقتصادي والاجتماعي يمكن أن توسم كلية بالفشل في أوروبا. المجاملات التي يبذلها القادة الأوروبيون وتصريحاتهم المنفتحة، لا تشكل فارقاً يذكر أمام مزاج التاريخ وسلوكه السابق، وعنجهية الجموع وجنونها، وآخر المجاملات كانت زيارة تيريزا ماي للمسجد الذي شهد مصلوه الحادثة المؤسفة، فما الفرق الذي يمكن أن تقدمه للبريطاني العادي وللمسلمين في بريطانيا؟ العنف صفة متأصلة في الجموع، ووجود مجموعات متمسكة بالهوية يمكن أن يسحق النزعة الفردانية التي تشكل ذروة الفلسفة الأوروبية الحديثة، وفي هذه الحالة ستظهر عقيدة «الهوليجانز» التي عبرت عن نفسها بعنف في حادثة ستاد هيسل في بروكسل، وذهب ضحيتها عشرات من المشجعين الإيطاليين على يد نظرائهم الإنكليز، وهذه العقيدة لا تحركها مكاتب السياسيين والكتل الحزبية، ولكنها ترتهن للصحف الصفراء والتغريدات غير الموثقة على توتير وتدوينات الفيسبوك وجميعها تحرك العشوائية في الجموع.
وجود أزمة الهوية لدى المسلمين سيحرك ضده أزمة أخرى للبحث عن هوية مناقضة في المجتمع، والدولة الوطنية في أوروبا أصلاً غير مصممة لتستوعب وجود كتلة هوية دينية مستقلة بالشكل الذي نعرفه في الشرق، فالهويات الويلزية أو الأسكتلندية تتراوح بين المظهر الفلكلوري والاستقلال بهوية دولة جديدة، وفي الحالتين لا يمثلان كتلاً تتصف بالقلق والتوتر، كما هي الحال مع المسلمين. وقف التمويل الذي يتحدث عنه بعض السياسيين الأوروبيين لا يمكن أن يشكل الحل السهل الذي يتصوره السياسي الأوروبي ونموذجه يظهر مع جيرمي كوربين، فالتمويل الأساسي للأفراد الذين يشكلون ظاهرة الذئاب المنفردة يأتي من المعونات الاجتماعية التي تقدمها الحكومات الأوروبية نفسها، ولو كانت هذه الحكومات مكترثة فعلياً لمارست الرقابة اللصيقة على القادمين واللاجئين، ووضعتهم في برامج استيعاب واضحة المعالم يمكن أن توفر لهم فرص حياة منتجة وكريمة، وحتى عندما تلحظ هذه الحكومات بأن فرداً يخرج بعيداً عن إمكانية إصلاحه لديها، وعلى الرغم من رصده من قبل الأجهزة الأمنية، فإن حجة سلامته الشخصية تكون عائقاً أمام إعادته لبلده الأصلي، وكذلك فعلت بريطانيا مع الأردني أبو قتادة، ومع أنه عاد في النهاية للأردن، فما الذي فعله الأردن معه، وأين التعذيب والصعق والفرم الذي كان يخشاه البريطانيون؟
الحديث عن دعم الإرهاب وجهود مكافحة الإرهاب وما إلى ذلك من ظواهر متصاعدة يجب أن يخرج من عباءة وصاية الغرب الأوروبي والأمريكيين لأن فشلهم بات واضحاً، وبتنا على طريق صدام الحضارات في صورته البشعة والمدمرة، ويجب أن يكون الاحترام قائماً بين جميع الأطراف في مكافحة الإرهاب، وأن يتم ذلك على أرضية التعاون لا التبعية، وهذه قضية لا يمكن أن يتفهمها الساسة في أوروبا والولايات المتحدة، كما أن الحديث عن حقوق الإنسان يجب أن يكون مرادفاً لمكافحة الإرهاب، فتأكيد هذه الحقوق والحيلولة دون التعذيب وتوفير محاكم عادلة، من الواجبات التي يجب أن يتوافق عليها المجتمع الدولي وجميع الحلفاء في حربهم على الإرهاب، لا أن تكون مجرد لعبة أعصاب وابتزاز سياسي، ستجعل الهوة تتزايد بين الحكومات والجموع.
............
- عن «القدس العربي»
..........
* سامح المحاريق : كاتب أردني