مفاتيح لفهم أمريكا
كتب : مالك العثامنة
الكثير من حبر المطابع و خلاصات الأفكار تراق في الصحف العربية على ما يمكن أن يقال للأمريكان وعنهم، وهم لا يسمعون ذلك بالضرورة! ومن الأجدى أن نحاول نحن بدلا من ذلك بذل الجهد في تحديد ما الذي يفكرون فيه!!. ..وهذا يتطلب العمل على عكس كل معادلات التعاطي مع الولايات المتحدة، ويتطلب أيضا فهما أعمق لأمريكا، هذا العالم الجديد الذي كان يفصلنا عنه أطلسي سرعان ما تلاشى في سبتمبر عام 2001. مفاتيح الفهم الأمريكي لا تبدأ من كتب التاريخ ولا أفلام هوليوود، ولا يمكن اعتبار بعض العلاقات رفيعة المستوى مع دبلوماسي هنا أو هناك مبررا يكفي للإدعاء أن فهم أمريكا علم تم ختمه! فمفاتيح هذا الفهم تبدأ من دراسة تفاصيل حياة الأمريكي العادي وتحويل فعل الدهشة من عادياته اليومية إلى أسئلة يتم البحث عن إجاباتها في كل ما سبق ذكره من طرق تقليدية، فهذا عالم جديد بالمعنى الحقيقي للكلمة، ولا يزال بحاجة إلى الاكتشاف من جديد.
الأسئلة التي تولدها الدهشة من هذا العالم ربما تكون بداية جيدة.. مثلا وليس حصرا؛ في التاريخ الأمريكي أحداث كانت في المحصلة عصب التكوين البنيوي لأمريكا الحديثة، ومن ضمنها حركة التحرر للأفروأمريكان (السود)، وكانت هذه الحركة ولا تزال قوية ومؤثرة ولها نضالاتها وتضحياتها ودماؤها التي شكلت جرحا مخجلا في بعض مفاصل التاريخ الأمريكي، فلماذا نجد في واشنطن العاصمة أهم متحف في العالم يجسد محرقة اليهود في الرايخ الألماني ولا نجد متحفا يجسد تاريخ العبودية في أمريكا نفسها؟ لأن التاريخ الأمريكي المحلي يحب ويعشق التركيز على البطولات ويحذف تلقائيا وذاتيا من ذاكرته الجماعية سلبياته مثل فيتنام أو اضطهاد السود وغيرها.
هل تساءلتم مرة لماذا الأمريكان وحدهم دون شعوب العالم الناطقة بالإنجليزية يستعملون مفردة التاريخ رديفا للعدم. (you are HISTORY man)!! نحن بحاجة لفهم الذهنية الأمريكية إذن.. حتى في الفلسفة هناك وجهة نظر أمريكية على عكس العالم كله تنتهج تدريس هيغل وماركس ونيتشة كفروع أكاديمية في أقسام الفنون أو في احسن الأحوال في أقسام الأدب!! وليس في أقسام الفلسفة التي تقوم بتدريس هنري كيسنجر في المقابل!! معظم الأمريكيين لا يقرأون واشنطن بوست ولا نيويورك تايمز التي يتشدق بقراءتها كثير من المثقفين العرب، وشبكة سي إن إن الحيوية لمن يراقب من الخارج، لا تعني الأمريكي وهي أصلا غير متاحة له بسهولة، وبالنسبة للمهتمين منهم بأخبار هذا العالم الذي يقبع خلف المحيطين، فإنهم يكتفون بتجرع وجبة أخبار دولية مدتها ثلاث دقائق مع إفطار الصباح الذي يستغرق دقائق أكثر، وبعد تلك الأخبار المعلبة باحتراف في ثلاث دقائق هناك ساعات طويلة من أخبار الطقس وبطولة رجل مطافي في إنزال قطة عالقة على عمود، أو موضة هوليود وتغطيات لجريمة قتل ما في ولاية ما مجرمها لا يزال طليقا بينما ساعات البث محجوزة لمحللين في علم النفس يسبرون أغوار هذا المعتوه الطليق!
هذه حياتهم، هذا نمطهم، فلندرسه، ولنعتد عليه كواقع معيشي لهم، ثم فلنفكر كيف يمكننا يوما ان نتسلل ولو لحظة بث واحدة خلف مذيع النشرة الجوية أو في ثنايا تحليل عالم النفس أو حتى في تطريز تصميمات الأزياء لنعرض رسالة، لنقذف برقية دعوة للتفكير، لإجبار بوب الجالس أمام الشاشة بهدوء أن يفكر في ما يكمن خلف المحيط. بوب هذا الجالس، هو أكثر من 200 مليون أمريكي يعتقدون بسذاجة أننا نكرههم، وبوب هذا هو ذاته الذي يقف كل أربع سنوات ليقذف في وجوهنا من داخل صناديق الاقتراع إدارة جديدة وحروبا جديدة، ويعود إلى بيته مطمئنا أن العالم يعيش بسلام!.