الحوار الأخير مع جاحظ عمان قبل وفاته بأربع ساعات
الساعة العاشرة إلا ربعا من مساء الجمعة الثالث من آذار 2018، لن أنساها ما حييت، فقد كنتُ على موعد مع عدد من الأصدقاء، فجأة انتابني شعور غريب ألغيتُ معه كل مواعيدي، فقد لاح لي طيف هشام بسرعة، وقلت في نفسي لا بد أن أرى «الجاحظ»، ربما أراد الله أن يمنحني فرصة لأودع صديقي..الوداع الأخير.
في الطريق لاحت لي الأيام الأولى منذ عرفتُ هشام صاحب مكتبة خزانة الجاحظ تلك التي تسكن ركناً في وسط البلد على التقاء شارعيّ الأمير محمد بالملك فيصل.
ولمن لا يعرف هشام، فهو ابن (49) عاماً، وكان مهتماً بتوسيع رقعة فكرة استعارة الكتاب، فقد كان يُعيرها لقاء دينار واحد، وكان مهتماً بكتب الأدب والتاريخ، وهو ذو ثقافة واسعة، لم أسمعه يوماً شاكياً أو متذمراً، كان بشوشاً مع الجميع، والأهم أنه متعلق بعمان، وكثيراً ما كان يطلب مني تدوين حكايات وقصص أهل عمان.
تعرفتُ على هشام منذ نحو 12 عاماً أي في السنة الأخيرة من دراستي للإعلام في جامعة اليرموك، كان أول كتاب نصحني بقراءته هو «بروتوكولات حكماء بني صهيون»، وسرعان ما بدأ يهيل عليّ من كتب المنفلوطي والأدب الروسي، كان إذا أراد أن يسوق رواية روسية، يناديني لأبيع معه، إلى أن وصل به الأمر أن ينصحني بقراءة كتب لمترجمين بأعينهم، ثم بدأت مكتبتي تزخر ببضع مئات من الكتب، ربما أن نصفها بالمجان من الجاحظ والنصف الآخر بأسعار زهيدة، كان من بينها كتاب لن أنساه وهو نسخة قديمة رأى هشام أنها أثمن شيء يمكن أن يهديه لصديق ولصحفي كتب عشرات المقالات عن المكتبة، وعنوان الكتاب «إعلام الناس بما وقع للبرامكة مع بني العباس».
وأنا بطريقي إلى وسط البلد، بدأتُ أحدثُ نفسي، وأقول «إن شاء الله يكون هشام بالمكتبة الآن»، فعلاً وجدته مثل حصاد متعب، يجلسُ بالقرب من أكوام الكتب والناس حوله تتبادل الحديث، وكعادته استقبلني بابتسامة، ثم ذهبتُ لأشتري من بقالة قريبة منه، وإذ به يهاتفني وعدتُ إليه سريعاً.
ثم بدأنا نتحدث عن هموم الناس وقرارات الحكومة، وسرعان ما طلب مني أن نتجه للشعر وأسمعه آخر ما كتبته، فقلت له:
العيون التي يولد فيها القمر.. مرقدٌ لليل..واستفاقة للفجر
عيناكِ غربة وقهر..متجبرتان متسلطتان
عيناكِ حكومة لا تخاف الله
لا تسمع العذابات المرة
ولا صراخ القلوب والعتاب
ولا تشظي شرايين قلبي
عيناكِ عذاب وتاريخ ستحفظه الأجيال
وستعرفين بعد حين
أن العيون التي تملكين ليست لكِ
عيناكِ وطني لّما يضيق العالم بأحلامي
ويضيق العمر بعائدٍ من الحرب بعد غياب
سحقاً لعمري إن أسدل الغريبُ جفنيك
عيناك ظلالٌ لغريبٍ في الصحراء
عيناكِ يا واسعة العينين
حديث الغرباء في الصحراء
عيناكِ استفاقة الزهر واستدارةُ الشمس في تشرين
ومطرٌ يمحو أحرف العاشقين على زجاج السيارات
عيناكِ لوز يافا وكنزٌ موصد الأبواب
أفيقي عينيكِ لأجل صلوات النسوة في الأسحار
لأجل عجوز عند البيدر تبكي كبداً ركب الحرب ولم يرجع
لأجل كهل يرى وجهه في البئر خريطة أحزان
وفي كفيه شمس الحصادين جهنم..تحرق أكباده عبيداً للتجار
أفيقي عينيكِ ولا تتركيني مثل عصفور جريح فوق القباب
قال لي هشام بعدها: الله الله..هذا شيء يباع بالنقود، اكتب يا حمزة، بخاطري أن أبيع لك كتباً من على رفوف مكتبتي، ولا تنسى روايتك عن عمان، لا بد أن ترى النور.
هنا دخل على الخط صديقنا المشترك الطبيب أحمد حمدان، وقال: إنك تكتب بشكل لطيف، لكنك تشوه النص بالحديث عن السياسة، فما علاقة العيون بالحكومات، أجابه هشام: وهل هناك سلطة وتجبر أكثر من الحكومات ليصف لنا حمزة تجبر العيون وقسوتها وعذاباتها لنا.
بعد ذلك جلسنا ثلاثتنا والتحق بنا شاهين الابن الثاني لهشام بعد ساهر، طلب لي هشام كأساً من الشاي وطلب للطبيب وله كوبين من الكركديه الساخن، وبدأنا نتبادل الحديث، وكان الطبيب أحمد يحدثني عن اكتشافات الطبيب محمد الرقاد وكيف يعد دراسة عن الذكاء.
وعلى غير عادتي كنتُ مشتتاً، فقد أحسستُ فجأة أن نفسي يضيق، وكنتُ أشعر أن الدنيا كلها تضيق، وتركتهما وأخذتُ أطوف حول كشك المكتبة، وأجلسُ وحيداً بالقرب منها، وأنظرُ إليها بتمعن، وأرقبُ حركة هشام وهو يبيع الزبائن، لقد كان شعوراً غريباً فعلاً.
ثم أمسك الطبيب أحمد بيدي وبدأ وسألني: يا صديقي أنت لست طبيعياً، أشعر وكأنك مهموم أو أن هناك ما يشغلك، هل تنتظر أحداً، فأجبته: فعلا، هنالك شيء غريب حدث لي فجأة، لا أعرف ما هو، أشعر أن صدري يضيق، والله يا صديقي لا أعرف ما بي، لكن لا أنتظر أحداً، إنما أشعر بشيء غريب يؤلمني، يؤلم رأسي وصدري وقلبي.
بعد دقائق فقدتُ الطبيب أحمد، قلت في نفسي ربما أخذ على خاطره وغادر، لكنني لم أقصد ذلك، وماذا بوسعي أن أفعل، عقلي ليس معي، هنالك شيء غريب يدور في رأسي، ربما أن موعد رحيل هشام، كان السبب، هي الأرواح تشعر ببعضها.
الغريب في تلك الليلة أن هشام عاد ليشكرني كصديق للمكتبة، بعد أن تفاعلنا إعلامياً مع حادثة القطة وحريق المكتبة، قلت له: يا صديقي ما هذا الكلام نحن اخوة، هذه المكتبة لي، ثم أغدق بعدها في الدعاء لجلالة الملك عبد الله الذي كان قدم للمكتبة مساعدة مالية على إثر الحريق.
فجأة انشغل هشام مع رجل وزوجته وابنته الصغيرة، ثم قال لي تعال أعرفك على شقيق الشهيد سائد المعايطة وهو المعروف بأسد قلعة الكرك، سلمتُ على الرجل بحرارة ويُدعى صفوان، وقلتُ في نفسي سأتركهم وحدهم كي يأخذوا راحة في الحديث، واستأذنتُ منهما عند الساعة الـ 11 وربع، لكن هشام كان متشبثاً بي، ولربما كان متشباً بالحياة، قال لي: أرجع يا حمزة، وذكرني بضرورة الترتيب لرحلة في أحد الأرياف بالجنوب بأقرب وقت مع وائل جرايشة والطبيب حمدان ووعدته بذلك، ولا أدري كيف سأفي بوعدي له.
بعدها توجهت لسيارتي، ولم أتجه صوب البيت مباشرة، كنتُ أدور بالشوراع القريبة من المكتبة دون أن أعرف السبب، ثم وصلتُ للبيت وغلبني النعاس، أيقظني باكراً هاتفٌ من سلطان ابن شقيق هشام، وكان نص المكالمة التي لن أنساها ما حييت، قال لي: يا حمزة أنت واحد منا وفينا، وكان واجباً أن أبلغك بأن عمي هشام اعطاك عمره.
هنا انقبض قلبي، وقلت له من هشام، أنت مستيقظ أم نائم يا سلطان أم تمازحني، ثم أردف قائلاً: يا حمزة.. صاحبك مات بحادث سير، قاطعته وقلت: مستحيل قبل ساعات قليلة كنت معه..يا سلطان قل لي أنك تمزح.
أغلقتُ الهاتف مع سلطان، واتصلتُ مع محمد شقيق هشام، قلت له «احكي لي أن سلطان يمازحني، بالله يا محمد بالله لا تمزحوا معي»، ورد علي محمد وقد غلبه البكاء..صاحبك مات.
هنا أطبقت الدنيا فعلاً على صدري، ولم أتمالك أعصابي، وشعرتُ لأول مرة أنني طفل صغير، بدأتُ أبكي كالأطفال، لكن اتصالات الصحفيين والأصدقاء داهمتني، كانوا يريدون التأكد من صحة الخبر.
بعد دقائق هاتفني الزميل وائل الجرايشة قائلاً: ما الحكاية يا رجل..معقول هشام..هيك بسرعة، فقلت له: بالله عليك يا صديقي لا تزد ألمي، أنا حتى الآن لم أستوعب الحكاية.
ثم كيف وصلنا إلى المقبرة أنا ووائل باكراً حتى الآن لا أعلم، كنا ننتظر نعش هشام، وبعد انتظار قرابة ساعة ونصف الساعة وصل الجثمان، تحركتُ إليه سريعاً، حملتُ نعش صديقي، في حين كان وائل بالكاد يقدر على الوقوف، لقد كان مصدوماً، وما أن ووري هشام الثرى، حتى نثرتُ على قبره التراب، وغالبني الدمع، وانحنيتُ جهة رأسه وقلت، سلام يا صديقي. أستودعك الله.
نظرتُ إلى يميني وإذ بعقاب المجالي وعودة الله الجرادات يهيلان التراب معي، كانا من أصدقاء هشام، وطالما تناولنا السمك سوية، ولبن النعاج، كان هشام يحبه كثيراً.
ثم ما لبثتُ أن التفتُ يساراً، وإذ بشاهين يبكي، ضممته إلى صدري، وبدأ ينتحب، وقال لي: بعد أن غادرتنا سألني والدي عنك، كان دائماً يوصيني كلما احتجتُ شيئاً أن اتصل بك، وبالأمس كان حديثه غريباً، وقال لي إذا كنت تملك (50) ديناراً ماذا تفعل بها، فقلتُ له: أوزعها مناصفة على أهلي، والبقية أقضي بها الدين عنك، فقال لي (عفية يا شاهين).
ثم ذهبتُ ووائل لسيارتي، في الطريق كان يسألني ما قيمة الحياة، لماذا نولد ولماذا نموت، لم أجب على تساؤلاته، وقال لماذا تتهرب من الإجابة، قلتُ له لا جواب عندي، ثم جلسنا صامتين بالسيارة، وأخذنا الوقت، وإذ بالمقبرة خالية من الجميع، وقد حل آذان المغرب، ربما كتب الله لي أن أكون أيضاً آخر من يودعه.
عدتُ جهة المنزل، لكنني كنتُ متعباً ومشوشاً وأشعرُ بالغثيان، وبعد أن أديتُ التزاماً سابقاً في إدارة ندوة للدكتور صبري ربيحات أقامتها جمعية منتدى شباب الوطن الثقافي في حي الطفايلة، توجهتُ للمكتبة، ووجدتُ الكراسي الثلاثة على مكانها، ثم بدأتُ أشعرُ أن المكان أصغر من ثقب الإبرة، الساعة تشير إلى الحادية عشرة والربع وهو التوقيت نفسه الذي التقينا به قبلها بيوم، وسرعان ما ركض إلي وهج شخص، إنه الطبيب حمدان، عانقني وقال لي الآن عرفتُ يا صديقي لماذا لم تكن على طبيعتك أمس، وغلبني البكاء، واعتذرتُ منه، وغادرتُ برفقة الصديق محمد خير الرواشدة، والذي جاء لمواساتي.
وعلى صراخ محمد شقيق هشام ونحيبه، عدتُ إلى المنزل، كان يقفُ على باب الكشك، ويقول، يا صديقي خزانة هشام الجاحظ ستبقى عامرة بكم، حارسة عمان لن تنام