"خارطتي الاردنية"
بقلم / د.محمد عكور
اعتز اني فلاح قد وُلدتُ في خاصرة الوطن الشمالي في الصريح ، وترعرعتُ في حضن التراب ، استفُّهُ في الحصيدة في أرض آبائي ، من المعترض شرقا ، وحتى الماصية غربا ، وكان أبي يزرعني في الأرض ، ويغرسها فيّ ، ليبني حصن الانتماء إليها قصرا مشيدا في نفوسنا ، ولنملأ بطوننا من خيرها ، دون أن تمتدّ أيدينا إلى الغرباء أو الحرام ، وكأن الشنفرى يعلّمنا مع أبي في تلك الخوالي حين قال :
واستفّ تُربَ الأرض كي لا يرى لهُ ...
عليّ من الطّول امرؤ متطوّلُ....
واشتدّ عودي ، وأنا أخلط دمي وعظمي بتراب وطني ، درستُ فيه ، وجاهدتُ فيه ومن أجله ، ولم أتّخذه سكّة لأعبر بها إلى بلاد الدم البارد ، ولم يكن لي منه ولا فيه سوى التعب المغموس ببساطة القرويّ الفلّاح الذي كان يظن الغنى والمنصب أحلاما شيطانية ، يستغفر الله عن التفكير فيها ولو برهة غفلة ....
نعم سادتي ....واأسفاه أنني عشتُ فريسة مسرحية ، أبطالها غرباء الضمائر ، ومخرجها صهرُ ابليس ...واأسفاه أنّ محرابنا تسوّره كل معدوم الضمير ، مجهول الجدّ ، مشبوه النّطَف ، باعوا بنا واشتروا ، وسافروا بنا ، بنوا من عظامنا شواهق قصورهم ، وملؤا من لحومنا حساباتهم البنكية غربا وشرقا ، يسخّروننا عبيدا في صفقاتهم ، ويكذبون ونحنُ نرتّل آيات الصدق على عتبات فجورهم....
واأسفاه ....حين يصحو الشباب الأردني ولا يجد سوى وجعٍ وهموم ، وفقرٍ وديون ...يصحو ليتمم غفوة أبناء الدببة الشرهة ، يصحو ليرى جدار التهميش يفصله عن وطنه ، فلم يعد له فيه سوى الفواتير والغلاء والهموم، ولا يجد مهربا سوى سماع الخطابات والحوارات الفارغة الكاذبة ......
واأسفاه ....حين تستشعر حقيقة وجودك بأنك لست أكثر من خشبٍ رخيص لمواقد الغنى ، وفحمٍ تالف لأرجيلة أبناء المواخير المشبوهة من المترفين ...واأسفاه حين تدرسُ وتنال أعلى درجات العلوم ، وإذا بك لا تحظى بأكثر من التفاتة حقيرة من مسؤول منزوع الفكر والضمير ، تحاول من خلالها بسطَ حقوقك ، وأنت مدرك تماما أنه يقتلك بلقبه ، وفساده ، ونكرانه لوجودك ، فأنت لستَ أكثر من جثة وطنية مرهونة برقم وطني..........
واأسفاه حين تنظر حولك فلا تجد سوى الفئران تدير رحى الحياة ، تستأسد فتصول وتجول ، وأنت تتغنى في نار حرقتك بقول ذي الوزارتين الأندلسي:
ألقابُ ممكلة في غير موضعها ....
كالهرّ يحكي انتفاخا صولة الأسدِ....
تغنينا بالوطن ، ووضعنا في جعبته كل آمالنا ، فإذا به ينزاح عنّا مترفّعا عن انتمائنا ، منحازا لأولئك الغرباء جنسا وفكرا وهويّة ، يشيحُ بوحهه عنّا خلا بعض المواقف التي تستوجبُ فتح جيوبنا ونهبها ، وليته يستقوي بنا لذاته ، لكنه يُستقوى به علينا لغيره....
واأسفاه حين تنكر ذاتك ، وتلعن التأريخ ، وتنسى ترابا اختلط بدمك ، لأنك لم تعد فيه أمام آكليه الغرباء إلا كماوصف ابراهيم بن الأدهم في قوله :
وباقي الخلقِ هم همجٌ رعاعٌ.....
وفي ايجادهم لله حكمة ....