"العلاج بالصدمة" لكَسرِ ظَهْرِ الفَّسَاد
يمر الأردن اليوم بأدق المنعطفات وأشدها حلكة، في وقت دفع فيه ثمن متغيرات جيوسياسية وأخرى دولية لم تكن ضمن نطاق السيطرة والحسبان، لكنه دفع في المقابل أيضا أثمانا باهظة كانت نتيجة حتمية لغياب الاستراتيجية الكفيلة بتطهير الفساد واجتثاث جذوره قبل أن يتمكن من النخر بمؤسسات الدولة ومقدراتها، ولربما أيضا لتفضيل الحكومات المتعاقبة الاستكانة لنمط كلاسيكي عقيم في إدارة مؤسسات وقطاعات الدولة وخصوصا تلك التي كان يعول عليها لتكون درعاً واقياً يحول دون بلوغنا هذا الواقع المؤرق المأزوم.
فكل متابع منصف، ولو بقليل من العقلانية والموضوعية، يعي ويدرك تماما أن أساس مشاكلنا السياسية والاقتصادية هو ثقافة الإفساد، التي تجذرت وتشعبت فروعها خلال العشرين سنة الماضية على أقل تقدير، فأفرزت الفاسدين الذين عاثوا في البلاد والعباد فسادا وظلما طال أخضر ويابس خيراتنا فكانوا سبب تأخرنا وانكفائنا بعد أن حطموا عجلات ومحركات التنمية والنهضة التي طالما حلم بها وتمناها كل الأردنيين لوطنهم منذ نشأته.
ولفهم ما جري وما يجري في حرب الحكومات الأردنية ضد الفساد، فقد بذلت الكثير من الجهود الوطنية الملموسة في إطار مكافحة الفساد وتعزيز مبادئ النزاهة والشفافية من خلال وضع منظومة تشريعية ومؤسسية; جميعها خلال (2008-2006)، شملت قانون هيئة مكافحة الفساد وقانون مكافحة غسيل الأموال وقانون حق الحصول على المعلومة وقانون إشهار الذمة المالية وقانون ديوان المظالم، بالإضافة إلى الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد التي جري تحديثها باستمرار لتتوافق مع المعايير الدولية.
لم يختلف يوما خطاب أي حكومة عن خطابات سابقاتها فيما يتعلق بمحاربة الفساد، ربما لغياب المنهجية والمفاهيم الواضحة للتعامل مع قضية الفساد ولغياب الجرأة على تحديد أسبابه وأثاره. وربما أن غموض مفهوم الفساد يجب أن لا يشعرنا بالاستغراب من تصريح رؤساء الحكومات المتعاقبة بأن اتهام الفاسدين ومحاكمتهم يحتاج إلى البيانات والإثباتات القانونية ولا كذلك من خلو البيانات الوزارية كافة من أي منهج أو نهج جديد في محاربة الفساد، فيما عدا السعي لإصدار مدونات السلوك الوظيفي التي لا تكاد تجد مؤسسة حكومية إلا ولديها مدونة تتعلق بالسلوك الوظيفي والنزاهة تزين بها موقعها الإلكتروني ربما لكونها ليس أكثر من وثيقة تعد لغاية اشتراكها في جوائز التميز والشفافية، ومن مسارعة المسؤولين لإشهار ذممهم، المالية.
فمفهوم الفساد الذي تتضمنه منظومة التشريعات وخطط الحكومات والمتابعات الصحفية، والذي يحتاج إلى إعادة تعريف وتوصيف، يعد قاصرا كونه يشمل توصيفا لأعمال وأنشطة الفاسدين دون توصيف لدور المفسدين الذين يتولون تأمين الحماية القانونية للفاسدين. ولجعل هذا أكثر وضوحا، فعلينا أن ندرك بأن الفرق شاسع بين الفاسد والمفسد وبين الفاسدين والمفسدين وبين الفساد والإفساد، وبان مشكلتنا ليست مع الفاسدين، لأنهم منحرفون بأنفسهم، ولكن مع المفسدين الذين يفسدون الأخرين; فلكل فاسد هناك مفسد يفتح له المجال ويمهد له الطريق للفساد ويزيل من أمامه العقبات. صحيح أن ضرر الفاسد عظيم وهائل ومؤذ، ولكن ضرر المفسد أكبر; فهو الذي يخلق البيئة والمناخ السرطاني الخبيث، ويضفي الشرعية على المال الخبيث، ويضفي الشرعية على المال الخبيث، ويطهر المال غير النظيف، ويقتل العمل ويخنق الإبداع ويصنع الفشل من خلال محاربة النجاح وإحباط وإقصاء الناجحين وتقديم قليلي الهمة ومجيدي النفاق عليهم بعد أن يتيقن من استعدادهم وإمكاناتهم لمشاركته فساده وفكره المنحرف. وهو ما يقتضي منا التعامل مع 'المفسدين' قبل 'الفاسدين'. وضمن هذا السياق فقد نستطيع قراءة الدعوة الملكية 'كسر ظهر الفساد' وتأويل لفظ 'الظهر' بأنه المفسدون الذين لا يتوانى الفاسدون بالخويف بهم عندما نقترب منهم مجسدين المقولة الدارجة شعبيا 'أنا لي ظهر فوق..'. ولربما تكون تسمية 'المفسدون' هي الأصح والتي يفترض استخدامها في حديثنا عن الفساد وفي حربنا ضده.
بالإضافة إلى غموض مفهوم الفساد وعدم شموليته، فإن البيئة التشريعية ومنظومتها في مجال مكافحة الفساد، التي شهدت تطورا كبيرا لا يمكن إنكاره، ما زالت رخوة وبها من الثغرات ونقاط الضعف التي استطاع الفساد أن يلج وينفذ من خلالها. حيث تشكل بعض نصوص الدستور الأردني عائقا وعقبة أمام القضاء على الفساد; ومنها النص الدستوري بعدم جواز تقديم أي وزير أو رئيس وزراء للمحاكم عن الجرائم والمخالفات التي وقع بها الوزير أثناء تأديته منصبه إلا بموافقة ثلثي أعضاء مجلس النواب الذي يحق له فقط اتخاذ قرارا باتهام الوزير وتجري محاكمته أمام المجلس العالي والذي يتم تشكيله من أعضاء من مجلس الأعيان وقضاة، مما يشكل مانعا وعائقا أمام القضاء والعدالة عن ملاحقة فساد هذه الطبقة أثناء عملها أو بعد مغادرتها مناصبها على حد سواء. ومنها أيضا النص الدستوري الذي يجيز للنائب أن يكون شريكا في الشركات التي يزيد عدد المساهمين أو المالكين للحصص فيها عن عشر أشخاص وهي شروط يسهل تحقيقها وتشكل منفذا لفساد تشاركي ما بين السلطتين التشريعية والتنفيذية.
وكذلك الأمر بالنسبة لمنظومة المؤسسات المعنية بمحاربة الفساد، فهيئة النزاهة ومكافحة الفساد هي الجهة المختصة حاليا بالتحقيق بقضايا الفساد قبل تحويلها إلى القضاء، وقد دأب على إيكال رئاستها إلى شخصيات ليسوا من القضاة أو القانونيين، جلهم من المتقاعدين العسكريين. رغم أني لست قانوني إلا أن الأصل هو أن يكون دور الهيئة من اختصاص محكمة مختصة خاصة بـ 'مكافحة جرائم الفساد' تكون تابعة للقضاء المدني ويكون لها هيئة ادعاء عام وضابطة عدلية يكون من مهمتها تعقب جرائم الفساد والتحقيق فيها وإجراء المحاكمات وأن تنحصر مهام هيئة النزاهة ومكافحة الفساد في تلقي الشكاوى وتعقب الفساد وجمع الأدلة فقط دون أن يكون لها سلطة التحقيق وذلك من خلال منحها صفة الضابطة العدلية وإتباعها لمحكمة مكافحة الفساد الخاصة وسلطتها. إضافة إلى ذلك، فقد جرت العادة بأن يتم إحالة جل الجرائم الاقتصادية، والتي تعتبر في معظمها قضايا فساد، إلى محكمة أمن الدولة للنظر فيها وإجراء المحاكمات وإصدار الأحكام التي لا يعترف بها دوليا كونها تتبع القضاء العسكري، بما يفوت الفرصة على الأردن في استرداد الأموال المنهوبة وجلب المطلوبين الذين تصدر أحكام بإدانتهم، مما يتطلب ضرورة تحويل مثل هذه القضايا الى المحكمة الخاصة المقترح إنشاؤها.
ولأن الفساد العريض والمستشري، والذي لا يمكن إنكاره وتجميله بأي شكل، هو السبب الأول والأخير وراء تراجع الاقتصاد والاستثمار وتدني الإنتاجية والأداء وزيادة معدلات البطالة وغياب العدالة في التوظيف وفي حصول الشباب على فرص العمل وضيق أحوال العباد، فلن يكون بإمكان حكومة الرزاز الحالية تحقيق الإصلاح الاقتصادي ودفع عجلة النمو والوفاء بوعودها إلا باتباع نهج جديد في محاربة الفساد وأساليبه والذي يعتبر في جوهره ونتائجه اصلاحا اقتصاديا بامتياز. ولضمان تحقيق ذلك، فإن الأمر يتطلب اصلاحا إداريا جريئا ومستحقا يعالج الفساد بشقه الإداري الذي لم يلق الاهتمام الذي يستحق قبل الأن، كما يجب أن يسبق الاصلاح الاقتصادي الكفيل بتجاوز الوضع الاقتصادي الصعب الذي يمر به الأردن. ويستدعي تحقيق ذلك مراجعة المنظومة الإدارية للمؤسسات الخدمية والاقتصادية وبشكل خاص تلك المعنية بصنع واتخاذ القرارات والسياسات الاقتصادية لضمان وجود الفريق الفني (المطبخ الاقتصادي) الكفؤ لإعداد دراسات الأثر والتقييم والتقويم للقرارات المتخذة وبما يعالج الترهل والمحسوبية والفساد الإداري بكافة مظاهره، والذي لا يمكن لمنصف إنكاره، لكيلا نتفاجأ يوما بمن يأتينا مدعيا بعدم وجود الفريق الملائم واضطراره للاستعانة بوصفات وخبراء المؤسسات الدولية.
وقد اتسعت أيضا مظاهر الفساد الأخرى وخصوصا في شقه المالي، والذي يرى البعض أنه قد وصل الى مرحلة اتسمت بمأسسة الفساد والفساد الكبير. إن أكثر الأسباب التي ساهمت في اتساع الفساد وتسمينه هي تلك السياسات الاقتصادية السلبية التي تراكمت على مدى عقود فأحدثت خللا في الأنظمة الاجتماعيّة والقت بالضبابية على المجالين السياسي والاقتصادي، حتى صار الفساد جزءًا من الثقافة العامة في المجتمع، وجزءًأ من النظام السياسيّ يصعب إنكاره. ورغم الجهود المبذولة لمكافحة هذه الظاهرة إلا أن هناك إجماعا مجتمعيا ونخبويا أنها لم تنجح في كبح الفساد والحد من اتساعه وفي علاج التشوهات الاقتصادية والاجتماعيّة الناجمة عنه وأن فعاليتها كانت أقل بكثير من المستوى المأمول ربما للأسباب التي أتينا على ذكرها، في الوقت الذي يرى كثيرون أنه من العبث القول بوجود إرادةٍ جادة في مكافحة الفساد مع الإصرار على السير في ذات النهج الذي لن يقود الا الى فشل جديد يضاف الى خيبات كثيرة، لاسيما في ظل تبرئة الكثير من أصحاب المال ورجال الأعمال والمسؤولين، ممن كانت لهم سجلاتٌ مُخزية في الاستيلاء على المال العام أو هدره أو إساءة استعمال السلطة.
باتت دائرة كبيرة من الأردنيين الشباب تواقين لرؤية تغيير جذري في الطريقة التي يدار بها ملف الفساد كفيل باستعادة ثقة المواطن بالدولة ومؤسساتها من أجل إنقاذ سفينة الوطن. ويمكن تسخير هذه العاطفة الشعبية المؤيدة للتغيير والمتحمسة لسرعة التخلص من الفساد والمفسدين من خلال إحداث اشتباك إيجابي مع الأجهزة والمؤسسات المعنية لتعيين المساحات والآليات التي يمكن النفاذ من خلالها، مجتمعة على هدف الحد من الفساد وتمكيين الإصلاح واستعادة توازن مفقود بين المؤسسات المختلفة، في مواجهة نخب مسيطرة بالتوريث أو النفوذ بتعاونها مع مجموعات المتنفذين والملاك‘ وسيكون لهذا الاشتباك فوائده في صناعة الضمير والوعي المجتمعي بخطورة الفساد على استمرارية الدولة ومستقبل أجيالها ومحاصرة هذا السلوك ونبذه. ويمكن لذلك أن يحدث في ظل الدعم الملكي الأخير والتصميم الذي يبديه الدكتور الرزاز الذي ما زال يحتفظ برصيد ثقة شعبية يمكن له أن يستند عليها فتشد ظهره وعضده.
وفي خضم الجدل والبحث عن طريقة يمكن معها اقتلاع الفساد ووأده وسرعة تطهيره، فإنه لا يُمكن معالجة أي أزمة تواجهُها أيٍ من البلدانِ عبر اللجوء لحلول آنية واستراتيجيات الحل بالتدريج التي لن تؤدي لأي نتيجة إلا أنها ستُسهم في تأجيل واحتواء تداعيات الأزمة إلى حين. وهنا فإن الحلولِ الاستراتيجية الحاسمةِ تصبح هي الخيار الوحيد والتي يجب أن تستند إلى نماذج ناجحة يمكن اقتفاؤها وإتباع نموذج جديد في طريقة محاربة الفساد يستند إلى عدم الانتقائية السياسية المتهمة بها الاستراتيجية الحالية والى مبدئي القوة في التصحيح والاعتراف بالأخطاء الذين طالما غابا عن استراتيجية مكافحة الفساد التي اتبعت خلال الاثني عشرة سنة الماضية.
ونظرا للأزمة الاقتصادية وأزمة ملاحقة الفساد التي تتسع دوائرها يوما بعد يوم، ولأن الحاجة باتت ماسة للمسارعة في التغيير وتصحيح المسار والتحرك، فإن أسلوب 'العلاج بالصدمة' قد يكون هو الأسلوب الأولى والأجدى اتباعه لكسر ظهر الفساد المستشري لما يتميز به هذا الأسلوب، الصدمة، مقارنة بأسلوب 'العلاج بالتدريج' الذي تم إتباعه حتى الأن لحل مشكلة الفساد والتي هي بطبيعتها مشكلة اقتصادية بالأصل ؛ بأنه سيساعد في تعويض التأخير لدينا في القضاء على الفساد وتعويض الفرص التي تم إضاعتها في مسيرة التصحيح الاقتصادي والاجتماعي الطويلة من خلال اختصار المراحل والاستغناء عن بعضها، وتحقق النتائج بشكل سريع وواضح وديناميكي. كما أن سرعة القضاء على الفساد، من وجهة نظري ونظر الكثيرين، ستجني عديدا من الثمار؛ من حيث استعادة المصداقية بالسياسات الحكومية وإجراءات الإصلاح في كافة المجالات، وخطب ود الاستثمار الأجنبي وخفض النفقات الحكومية من خلال انقاذها من الهدر وسوء الاستخدام، بالإضافة إلى ما تحمله من إشارات الثقة للمستثمرين الأجانب وتراجع شعور عدم اليقين لديهم في أن تكون المملكة المقصد الأكثر أمانا لوجهة استثماراتهم وأعمالهم التجارية.
وهناك عدد من النماذج الناجحة التي أتبعت في معالجة الفساد بأسلوب الصدمة في ماليزيا واندونيسيا وعدد من دول أمريكا اللاتينية، ومؤخرا النموذج السعودي والتي يمكن الاستفادة منها. ولا نعني بالدعوة الى استلهام هذه النماذج محاكاة أي منها وتطبيق كل تفاصيله. بل أيجاد وتكييف نموذج أردني يأخذ بالاعتبار خصوصية الأردن التشريعية والمجتمعية ويلقى الإجماع والدعم من كافة مكونات وأطراف المجتمع.
ولكي يكتب النجاح لهذا النموذج، فإنه يتوجب، دون تأخير، تشكيل محكمة خاصة بمحاربة جرائم الفساد تشكل بقانون خاص تابعة للمجلس القضائي المدني كما سبق ذكره، وإلحاق هيئة النزاهة ومكافحة الفساد إلى سلطة هذه المحكمة، والبدء مباشرة في إجراء التحقيق والمحاكمات للقضايا التي تجمعت لدى الهيئة بحكم عملها والاستفادة من كم البيانات التي تتوفر للهيئة والأجهزة الأمنية المعنية التي نعتقد أنها كبيرة ومهمة، ومتابعة التحقيق في أي شبهات فساد قائمة أو مستجدة، ويجب أن يجري كل ذلك في فترة قصيرة جدا بتعاون الجميع. كما يجب أن يوازي ذلك سرعة إجراء التعديلات الدستورية للنصوص التي تتعلق بمحاكمة الوزراء والسماح لأعضاء السلطة التشريعية بممارسة التجارة، التي سبق الإشارة إليها بأنها معيقة للعدالة وسيادة القانون. وسيأذن إتباع هذا النهج بعهد وعقد اجتماعي جديد، يتم فيه استعادة الأموال المنهوبة أو جزءا كبيرا منها من خلال تفعيل مبدأ إجراء التسويات مع الفاسدين مقابل عدم ملاحقتهم، وهو ما يجوز قانونا، وعندها فقط سيتوارى الفاسدون خجلا وشعورا بالخزي والعار والخوف.
الوطن ومستقبله وأبناؤه والحكومة لا يملكون جميعهم ترف الوقت لوقف طوفان الفساد وتطهير الوطن من الفاسدين والمفسدين بعد أن وصلنا الحلقة قبل الأخيرة، مما يوجب أن نبدأ الأن دون تردد أو تأخير، لأنه لا صوت لمفسد أو فاسد يمكن أن يعلو فوق صوت الوطن، ولن يكون هناك عذر لأي كان بعد أن أطلق قائد الوطن صافرة الانطلاق.