الأردن والرأي الآخر الممنوع
يبدو العنوان غريباً أو غير مألوف بشأن دولة اشتهرت بسهولة التواصل بين جميع مكوناتها، وإمكانية ردم أي هوة أو خلاف بسرعة، وتميزت أيضاً بهلامية القناعات، بحيث يصعب على أي دارس تحديد أشكال الخصومة، هل هي حقيقية أم نوع من اللهو، لسهولة الوصول إلى حلولٍ تُرضي الجميع، وبشكلٍ يكون كاملاً، بحيث تميّزت الحالة الأردنية دوماً بصعوبة إيجاد خاسر، والسهولة الكبيرة لإيجاد منتصرين، لأن الحلول كانت دوماً تضمن أن يشعر الجميع أنهم حصلوا على حقوقهم. لكن هذا كله يتغير أو يكاد، فالواقع يشير إلى بروز شكل آخر أو نمط جديد من حالةٍ تحاول فرض نفسها على الواقع الأردني، على أصعدة متعدّدة، فكرية، سياسية، اجتماعية، وحتى اقتصادية، ديدن هذه الظاهرة الشكّ المطلق فيما كان، وعدم الاعتراف بالاختلاف، أو حتى أن ثمّة رأيا آخر موجودا. ويمكن سرد نماذج حدثت أخيرا، تذهب إلى توجّهٍ كهذا:
بدءا بالسياسي.. تنطلق وجهات النظر دوماً من وجود خطر وجودي يهدّد بقاء المملكة، ما يفترض أن عدواً متحفّزاً سينقضّ في أي لحظةٍ، ولكي يقوم بذلك، لابد من أدوات داخلية، وهم أشخاصٌ غير معلومين، أو محدّدين، الأمر الذي يُلقي إلى دائرة الاتهام ناسا عديدين، وهم في العادة المختلفون مع أيّ كان، فسوف تطاولهم تهمة التآمر أو محاولة زعزعة الدولة، أو نسف مقوّماتها. ولهذا يتخذ نقد السياسات مبدأ شديد الخطورة يكاد يلقي بالمختلف بالرأي، في دائرة الخيانة، ويذهب هذا كله في إطار تفسيرٍ مغال في الوطنية، يوصلها إلى حد التعصب غير القابل للمراوحة، في إطار آراء متعدّدة.
ويمكن رصد ذلك من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، فترى الذين أُتيح لهم أن ينشروا شكلاً مقزّماً جداً لمفهوم الوطنية، أو حتى المواطنة، وهؤلاء ينبرون من خلال منصاتهم عن كل حدث عام، وبشكل لافت، لتقسيم الناس، وفق مفهومٍ واحدٍ من هو على صواب، ومن هو على خطأ، ويفعلون ذلك وكأنما مفاتيح الحق قد علقت سلاسلها في شآبيبهم، وهم بذلك أدخلوا الجمهور في حالة ليس هدفها إيجاد حلول للمشكلة، بل جعلوه يتصارع في حواشي الحدث، للدفاع فيما إذا كانوا على صوابٍ أم لا، هل هم ضمن جمهور الوطنيين؟ أم الأعداء؟ وتلك طامةٌ كبرى.
وليس هذا فحسب، بل حتى الإطار المؤسسي لتداول الخطاب العام في الأحداث المهمة، لم يبتعد كثيراً عن هذا الشكل السابق، فهو لم يستطع أن يُنتج خطاباً قادراً على تبنّي مفهوم محدّد للوطنية، وبالتالي لم يستطع مقاومة إغراء الشعبوية، فنراه يسقط ضحيّة مروّجيها، لذا تزداد نسبة المتأثرين بهذا الشكل الإعلامي السطحي. ولذلك كله، انعكاسات خطيرة في إنتاج متلق مؤمن بمفاهيم مشوّهة عن أي حدث، وكيفية تفسيره، وطريقة تنميط السليم من غير السليم من السلوكيات إزاءه.
وعلى الصعيد الاقتصادي، يتراكم الشكل الاستهلاكي بشكلٍ يكاد يكون ساحقاً، وهذا سوف ينتج نوعاً من السلوكيات، سواء على المستوى الفردي أو الاجتماعي، فـ"الأنا" سوف تكون المحدد الرئيسي، فعلى مستوى الفرد تجعله يتخطّى كل الحواجز السلوكية، والقيمية، سواء الدينية أو القانونية، لإشباع رغباته الاستهلاكية، ما سهل إيجاد المبرّرات حين ارتكاب أخطاء على صعيد العمل، مالية أو إدارية. ولكي يتم ذلك، ترافق بتغيرات جوهرية في داخل الفرد، كي توائم بين السلوك الخاطئ والاستمرار في حالةٍ من الاعتداد بالنفس، وكان ذلك باختراع شكلٍ غريب من العنجهية، المترافق بغرور بلا حدود. طبعاً تبدأ هذه الظاهرة في التكوّن، وهي لا تزال تشقّ طريقها وروّادها يتزايدون، ولكن إلى متى؟
هذا على صعيد الفرد، أما مؤسسات الدولة فقد تراكمت فيها البيروقراطية، إلى أن أصبحت كتلة صلبة، لها أدواتها وقوتها التي تتأتّى من أذرع مكينة، تستطيع الامتداد، وسحق كل متطفل عليها. وهذه البيروقراطية التي كانت ذات يوم مصدر تطوّر الاْردن وفخره في كل مكان من الوطن العربي، أصبحت الآن أحد أهم معيقات تطوّره، والمشكلة أنها قادرة على التبدل والتغيير، حسب الحدث، فتراها محافظةً حيناً، وليبراليةً باندفاع حيناً آخر، ونيوليبرالية حين اللزوم، بل قد يصل الأمر إلى أن تتقمّص آراء متبنيّ الأفكار أكثر منهم هم أنفسهم، وفجأة تبتلعهم هم وأفكارهم وتبقى هي، فتعيد بعد ذلك قولبة الأمور حسب مقتضى الحاجة، فتقسم وفق مصلحتها أيضاً من مع الوطن ومن ضده، وهذا سيساهم أيضاً في إيجاد آخر يجب الانقضاض عليه.
من الجهة الأخرى، من لم يستطيعوا أن يكونوا جزءاً من هذا الجهاز البيروقراطي، وهم العاطلون عن العمل، وأصحاب المهن الصغيرة والهامشية، والعمال غير المصنّفين، أو في القطاع الخاص، فهؤلاء جميعاً ينظرون بشك وريبة إلى الفئة السابقة، ويكوّنوا عنها هامشا واسعا من وجهات النظر، تصل، في أحيان كثيرة، إلى اعتبارها عدواً وسبباً للبلاء، لأنها بالنسبة لهم تستحوذ على جُل المكاسب والامتيازات.
أما الطبقات الغنية، والتي هي في قسم كبير منها طفيلية، وغير منتجة، بشكل حقيقي، فهي تستثمر الفساد الموجود في الطبقة السابقة، لتراكم ثروات كبيرة على حساب العطاءات الحكومية، والتي تعتاش عليها، فحينما تتوقّف تلك العطاءات تتوقّف ماكينة تلك الطبقة عن أي تطور أو إنتاج، فحياتها ومشاريعها ونموّها يعتمدون فقط على تحالفها العميق مع تلك المؤسّسات، وهي تمَدّها بالمال الكافي لاستمرارها وتغوّلها. ومن هنا أيضاً، يتم إنتاج خطابٍ يحدّد الوطن ضمن مفهوم هذه الفئة ومصالحها، وبالتالي يتم إنتاج آخر معادٍ لها، وبالتالي معادٍ للوطن.
أما المستوى الفكري، فهو المنتج الذي لم يُنتج بشكل مكتمل أبداً، فقد تطوّر دوماً بحسب رغبات الإقليم، وتطور قواه الإقليمية، فقد كان قومياً حينما كانت القوى الإقليمية العربية الكبرى تنادي بذلك، وعكس إلى إسلامي بمثل ذلك، وقُطرياً حينما ساد مفهوم الدولة القُطرية في المنطقة، وكانت الأمور تسير على هذا المنوال، إلى أن حدث الربيع العربي، وأضاع البوصلة بغياب طرف إقليمي عربي، قادر على إنتاج مسارٍ مقنع لأيديولوجية واضحة. وهنا وجد الناس أنفسهم في مواجهة صعبة، من نحن؟ وماذا نريد؟ فكانت القناعات تتجاوز الإقليم العربي، لتذهب إلى أبعد منه إلى تركيا، أو إيران، بوصفهما طرفين إسلاميين، وتمت قولبة القناعات للتوافق مع تبني رأي أي منهما، وهنا حصلت المواجهة مع الذات أولاً، ومع آخرين كثيرين. ونظراً إلى غياب إمكانية التقارب، فقد تحولت القناعات إلى حوائط صد إسمنتية صعبة الردم مع آثار عميقة وراءها.
أما على مستوى المجتمع، فقد كان هو الخزّان الذي استوعب كل تلك التحولات، وانعكست في داخله سلوكياتٌ، جانبت المعتاد أو المقبول، فذهب بعضها إلى حدود التطرّف، عبّر عن نفسه، إما بالذهاب إلى أقصى أشكال التفسيرات تطرّفاً على الصعيد الديني، ساهمت في إنتاج ظاهرة إسلاموية، مغالية، ذهبت، في أحيان كثيرة، إلى تبنّي العنف، ويفسر ذلك وجود كثيرين من قيادات تلك الجماعات من الاْردن. أو ذهبت إلى تفسيرٍ مغالٍ في انتماءات محلية، ترفض التوسع إلى دوائر أكثر رحابةً، خشية أن تسحقها التطورات المتسارعة، بدون رحمة، ففضّلت التقوقع، وتقمص مقولاتٍ تتوافق مع حالتها هذه، وهي بالتالي وسّعت دائرة الآخرين، الأمر الذي رشح أيضاً عدداً أكبر إلى دائرة المعادين. أو ذهب بعضهم إلى المغالاة في التغرّب، وتبنى شكلاً من السلوك غربي الطابع، حتى على صعيد المفردات المتداولة، فهي ذات طابع غير عربي، ونمط الحياة، وهؤلاء هم المنتجون لفساد الطبقات، آنفة الذكر، والذين يُحاولون عزل أنفسهم عن بُنى المجتمع التقليدية، كي يسهُل عليهم اعتبار النقد الموجّه لهم شكلا من حسد الطبقات الدنيا وحقدها، وهؤلاء بالضبط هم في حماية الدولة وكل أجهزتها، لم ولن يتم الوصول إليهم، طالما تلك التكوينات مستقرّة، وغير متزعزعة.
ذلك بعض زهيد من كُل كثير، يفرض على بلدٍ تعوّد التسامح إلى أبعد ما يكون، بين عناصره المختلفة، بحيث كان من الصعب جداً رسم حدودٍ فاصلةٍ بين أجزائه، فلا تكاد تعرف الغني من الفقير، لسهولة نمط عيشهما وبساطته، ولا تكاد تعرف المسؤول من المواطن، لوجود شكلٍ من الحدود يُعرّف مفهوم القيمة الاجتماعية بشكلٍ يتجاوز حدود الوظيفة أو المنصب العام.
تلاشى ذلك كله الآن، فعلى المجتمع أن يواجه ذاته بقسوة، فالأقوياء فيه باتوا لا يعترفون بالمحدّدات التقليدية للقيمة الاجتماعية، وأصبحوا يودّون مفاهيم جديدة تعكس قوتهم الوظيفية والمالية على أرضيته، بحيث تنعكس مكاسب في القيمة الاجتماعية لهم، وهو ما يُقبل أو يُرفض مجتمعياً، بحسب فائض الضغط المستخدم أو الإغراء، ولكن ذلك كله سوف ينعكس، في النهاية، على مقولة نحن وهم.
.. ألا يشكل ذلك كله الوصفة السحرية للاحتراب الأهلي، وعدم الاستقرار، والذهاب في مساقات ممزّقة ومدمّرة للسلم المجتمعي؟