مسرحية سلالم يعقوب
سلالم يعقوب
ما بين دهشة الإتقان وإتقان الدهشة و عندما نتحدث عن العرض المسرحي يجول في خاطر المشاهد المحترف تلك الطقوس التي تسبق العرض ، وما يدور في مقدمتها من ترقب وهيبة عالية تحفظ للمسرح رونقه وجماله ،
لكننا في ايام مسرحنا اليوم وما يحيط به من ضغوطات تواجه الفنان والابداع ، بدأنا نلاحظ فقدان تلك الطقوس التي هي اساس اقبالنا على قاعة العرض المسرحي لنغرق في النمطية وتبريرات ظروف العرض جعلتنا نعتقد ان المسرح اصبح بلا طقوس ، بل واعتدنا على ذلك ، ولكن في السابع من سبتمبر دعيت لمشاهدة بروفا عامة او عرض مبدأي اولي مصغر لعرض مسرحي بعنوان سلالم يعقوب ،
شدني هذا العنوان خاصة ربطه بتلك الدائرة الكهربائية التي تسمى بسلالم يعقوب والتي هي اساس في اصدار الطاقة الضوئية ، كما ورد في شرح عنوان العمل ،
وصلت متثاقلا كما اعتدت مؤخرا في مشاهداتي للعروض المسرحية ، الا انني ومن اللحظة الاولى عندما وصلت المركز الوطني للفنون الادائية مكان العرض ، ادركت اختلافا واضحا في التحضيرات التي تسبق العرض ليعود الطقس والترقب والرهبة ، وكأن تلك الذاكرة ولدت من جديد، بداية اعادت الاعتبار للطقس المسرحي ،ووجدت نفسي استمتع بالتفاصيل غارق في رائحة العرض وطقوسه التي وضعني فيها مخرج العمل قبل ان يعلن بداية العمل ،
بدأ المشهد التحضيري للعمل لكنني فوجئت بأن اكثر من خمسين دقيقة مرت على العمل ،ولم انتبه لذلك حتى انني لم التفت ابدا ، لكن ما سجلته الذاكرة البصرية والدرامية سجل جملا لا استطيع محوها حتى لو اردت ذلك ، عملا بصريا دراميا يحاكي واقعنا العربي بجدلية العلم والابتكار ، وعالم الشد العكسي ، صور بصرية متتالية مكثفة مختزلة تشكلت في مشاهد تحكي قصة يعقوب ، تقطعها تلك الحوارات المختزلة التي تؤكد وتعزز الفعل المسرحي والاداء المتقن المفعم بلغة جسد عالية التقنية منفعلة كما لو كانت تجمع كل الثقافات في رداء واحد ، لتشرح قصة يعقوب والعلم وحالة السلب التي تعرض لها في خضم التحديات المحيطة ، يعقوب الذي قرر ان يعتكف على نفسه وعلمه في فكرة الابتكار ومساحة الابداع برفض واضح من محيطه الخاص جدا والعام ، والمحاولات المتكررة لسلب انسانيته ، وابتكاره وفكره ، لتنجح قوى الشد العكسي بتحطيم عالمه ، بصور بصرية جمالية متقنة توضح الصراع وتدعمه ، ليتدخل يعقوب في النهاية ويرتجل ويتدخل بصور درامية عميقة وينتقم ،
لعب دور يعقوب الفنان عماد الشاعر المثقف المعروف في الوسط الفني ، وهو ايضا ممثل محترف في الوسط الفني ، في الحقيقة هي المرة الاولى التي ارى فيها هذا الفنان يتصبب عرقا في دقيقة العرض الثالثة ، هذا العرق المحبب الذي كثفه اتقان الدور وتحقيق الرؤيا الاخراجية بأدوات مسرحية بصرية درامية عالية تعكس قدرات هذا الممثل على الاداء والتمثيل لتحل الخبرة بقوة مكان مساحة اللياقة والعمر الذي لم يعد مهما في مثل تلك الرؤيا البصرية الدقيقة . في لحظات تجلي لهذا الفنان كنت اراه احيانا شابا يافعا بخبرة اكثر من ثلاثين سنة مسرحية .
زوجة يعقوب التي بم يتبقى من يعقوب فيها الا هذا التذمر الهائل من كل فعل يحركه بل ومن كل شهيق وزفير ينفثه ،لتشترك بلعبة الشد العكسي بكل الدوافع المادية والجهل المتقن الذي ادته الفنانة المبدعة نبال العوضي والتي اظن انها المرة الاولى لها على المسرح ، لكنني شاهدت طاقة وقدرة هائلة واحترافا واضحا جعلني اعتقد ان الممثلة قد عاشت حياتها على خشبة المسرح الى جانب يعقوب ، ولفتني في هذا العمل الفنان المخضرم نبيل كوني الذي اتقن ما يفعل لدرجة الاستفزاز حتى انني كنت سأنقض عليه في لحظات عالية الاتقان في ادارته للشد العكسي بحركاته وانفعالاته المختزلة المركبة ، والحال ينطبق على شخصية المراة التي في جملتها الاولى المسرحية وادائها جعلتني اعتقد ان المسرح يهتز بجملها التي حفزتها طاقة مهيبة جلعتني مسمسرا في مكاني مترقبا ،ادى هذا الدور داليا الحاج التي اعتقد انني لم ارها من قبل على خشبة المسرح
لفتني ايضا الشخصيات المعاونة التي حفزت الصراع وخططت له خاصة مع شخصية الابن وسيطرت عليه احيانا واشتركت في اللعبة احيانا اخرى حتى انهم اوقعوني في اللعبة المسرحية لدرجة انني كنت اقطع النفس عند حضورهم المسرحي الشخصيات المعاونة اداها لطفي فحماوي ومحمود حماد وياسمين مروم ، اما الابن هذا المراهق المقنع بمراهقته وانقلابه على اسرته وانضمامه لعناصر السلب ادى دوره ابراهيم عشا ،الذي لم انسى لحظات المراهقة التي اداها الممثل بكل معالم المراهقة الضائعة وقسوة المحيط ، لينتهي مختنقا على يد معاون يعقوب الذي ادار الفعل المسرحي لحظة وكان الشخصية الوحيدة التي اثنت على يعقوب مع انه اشترك في لعبة الشد العكسي ورغم انه الشخصية الوحيدة التي كانت تغيب عن خشبة المسرح الا انه كان واضحا الخبرة والقدرة على تجسيد الانفعال الداخلية بلغة جسد تعي تماما مفاهيم الصورة البصرية والدراما وكان واضحا سنوات الخبرة الطويلة في هذا الشكل المسرحي على جسد المعاون ولم اتفاجئ بان المعاون هو مخرج العمل المسرحي سلالم يعقوب الدكتور الحاكم مسعود الذي نقل لنا تلك التجربة الاولى في المسرح البصري ولغة الجسد بصورته الحقيقية المتقنة ، مزيج من فلسفة الجسد الاوروبية وتقنية اسيوية في الاداء تمتزج بدراما تحمل كما هائلا من المشاعر الانسانية العربية ويساعده بالاخراج المبدع محمد عشا ، صور جمالية مؤلمة تجعلك تتقطع بين جدلية جمال الصورة واتقانها وهذا الكم الهائل من الالم الانساني ، رؤيا اخراجية واضحة فكل تفاصيل العمل وممثليه حتى السينوغرافيا التي اعدها المخرج ونفذها مجموعة من الشباب كانت دقيقة منصهرة في العمل وكأن كل عنصر من عناصرها يشكل ممثلا منفردا على خشبة المسرح تتدخل في الصراع واضحة وحاضرة من اضاءة ، موسيقى ، ازياء ، مكياج ، في هذا الفراغ على خشبة المسرح الذي شكلت عناص السينوغرافيا والطاقة الابداعية الديكور الخاص بالعمل ، عرفت من الطاقم مصممة الازياء لينا الكسواني ، والاضاءة محمود حماد " المركز الوطني للفنون الادائية " والماكيير نهى ابو علي .
سلالم يعقوب عمل بصري انساني درامي لم يحمل للاردن تجربة اولى شكلا وموضوعا بصري فحسب بل بالنسبة لي اعاد للمسرح الاردني هيبته وجماله وكان من المفرض ان اقدم نقدا بناءا للعمل ، فوجدتني اقوم بوصف هذا العمل كأنني اراه لقد سرق المخرج ادواتي النقدية سلبها برؤيته الاخراجيه وجعلني غارقا بين دهشة الاتقان واتقان الدهشة .
سلالم يعقوب هي من انتاج كوارتز الدولية للاعلام وهي سابقة اولى لهذه الشركة كمنتج منفذ لهذا العمل المسرحي اعتقد ان المدير التنفيذي هيثم ابو السندس كان اذكى من كل من اعتقد ان المسرح هو اخر ما يمكن انتاجه ، هي دعوة لكل الرعاة والمنتجين التفكير مجددا بدعم وانتاج الاعمال المسرحية التي اعادت له سلالم يعقوب رونقه وجماله .
للتأكيد هذا العمل هو من تنظم ودعم نقابة الفنانين الاردنيين والهيئة العربية للمسرح، وسيشارك في مهرجان رم الاول للمسرح " نسخة الفنان الراحل ياسر المصري " سيعرض العمل في المركز الثقافي الملكي ، الايام الاولى من شهر اكتوبر لهذا العام .