لنكن أبطالاً.. بوكوفسكي مثالاً..


أنباء الوطن -

بقلم / عدنان برية

لا تروقني الاقتباسات عن مشاهير الأدب والثقافة والفن؛ المقتبسون والمقتبسات ينتزعون تلك الكلمات من السياق العام لحياة المشاهير، ويسدلونها على أنفسهم في "تقمص غير واعٍ" لسياقات أصحابها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، والنفسية أيضاً.

الاقتباسات تحيل متقمصها إلى "وعي زائف"، يتعاظم تدريجياً حتى يصبح بمثابة "شرنقة ضخمة" لا يمكن الخروج منها لاحقاً، ويجرهم مكبلين إلى درك من المآزق النفسية والاجتماعية.

ما سبق ليس ضرباً من فذلكة أو تمنطق، ومثاله من يتقمصون اقتباسات المبدع تشارلز بوكوفسكي، الذي أنتج أعمالاً أدبية في الشعر والقصة والرواية، بيد أن أحداً لم يلتفت - قبل تقمص أقواله - إلى نشأته وحياته وسياقات منتجه الأدبي، ومدى مطابقتها لسياقاته الشخصية.

بوكوفسكي ظن طويلاً أنه "ابن غير شرعي"، ولد من رحم سيدة ألمانية، بعد شهر واحد من زواجها بجندي بولندي أمريكي، وانتقل - وهو ابن الثالثة - للعيش في الولايات المتحدة الأمريكية، وتحديداً في مدينة بالتيمور، بولاية ميرلاند، ذائعة الصيت بـ "العنف" و"الجريمة" و"التمييز العرقي"، وبعدها ساقته الأقدار إلى لوس انجلوس.

نشأت بوكوفسكي، وأهميتها هنا بوصفه "مثالاً للتقمص" فقط، جاءت وسط بيئة عنيفة، تعرض فيها لـ "الإيذاء الشديد"، على مستويي الأسرة والمجتمع، ما أحاله إلى "نموذج انعزالي"، كاره لمحيطه وفاقد للأمل، وهو ما يعترف به في مؤلفاته، تارة تصريحاً وأخرى تلميحاً، وفي ثالثة يستنبطها القارئ من بين كلماته وجمله.

"السياق القهري" للنشأة، وما تضمنته من تحطيم للإرادة، والإحساس العميق بالتهميش، وصولاً إلى تركيبة شخصية استدعى ضعفها "إدمان الكحول"، في محاولة لـ "تخليق عالم موازي أو متخيّل"، يتيح له هروباً من واقعه إلى "صيغة وهمية"، يكون فيها الجلاد أو الفاعل في مقاربة القهر، أو يبرزه كبطل لمجتمع القهر والتهميش.

التهميش وعدم الاعتراف المُعاش واصل ضغطه على بوكوفسكي حتى وهو في قمة مجده الأدبي، ففي الوقت الذي حظيت مؤلفاته باعتراف المجتمعات البعيدة، افتقد لـ "اعتراف مجتمعه القريب"، وسعى إلى تبريره بالحديث عن طبائع المجتمعات ومدى تقبلها لما جاء به.

التجربة الشخصية، كما صنعت من بوكوفسكي مبدعاً، جعلت منه "مريضاً نفسياً" بـ "شهادة رسمية" منعت التحاقه بالتجنيد الإلزامي، لكن مجمل التجربة بلّور العقل والروح التي تقف وراء منتجه الأدبي، وانعكست - تالياً - على مجمل معالجاته وأبطاله المختلقين.

لا شك أن بوكوفسكي "كان بطلاً"، لكنه ليس أنموذجاً للبطولة، فهو بطل سياقه وتجربته وحياته، واستطاع أن ينقل إلينا تصوراته، لنطلع عليها باعتبارها "تجربة إنسان"، وليست حالة للتقمص، فهو لم يتقمص التهميش بل عاناه.

مشاهير الأدب - في غالبهم - أبناء تجربة، هم أصحابها وأبطالها أيضاً، ومنتجهم الأدبي ليس اختلاقاً، بل انعكاس لحقيقة معاشة بطريقة ما، ولكن المقتبسون والمقتبسات ليسوا إلا هاربين من سياقاتهم، فارين من أدوار البطولة الحقيقية إلى تقمص جوهره غريب عنهم، في مسعى إلى ملاذ زائف، حقيقته شرنقة غليظة، بمثابة كفن.

لنكن أبطالاً لتجاربنا، وانعكاساً حقيقياً لسياقاتنا، لنحكيها بوصفنا فاعلين مشتبكين مع الحياة، لا متقمصين ضعفاء، نتوارى خلف اقتباسات بمثابة ذرائع سرعان ما تسقط صريعة، فالتصالح الحقيقي مع الذات يبدأ من هنا.