إدارة الأزمات…الكورونا مثالاً
بقلم / د.محمد أبوحمور
وزير مالية سابق
حبانا الله في الاردن قيادة تضع هموم المواطن والعناية بصحته على رأس أولوياتها ، ومن هنا أنطلقت الجهود الوطنية وتكاملت الاستعدادات والاجراءات على مختلف المستويات من أجل التصدي للوباء وأحتواء اثاره وتقليص احتمالات توسعه وانتشاره ، وما يبعث على الاطمئنان هو ذلك التلاحم الذي نشهده بين مختلف مكونات الدولة والمجتمع والتكامل الذي الذي تجسده نشاطات مختلف الاجهزة الرسمية المدنية منها والعسكرية ، كل ذلك يبعث الامل ويرسل برسالة واضحة تؤكد قدرة الدولة الاردنية على القيام بواجباتها تجاه المجتمع ، وقدرة المجتمع على التجاوب مع اجراءات الدولة والعمل على تعزيزها وضمان نجاحها ، وهذا هو ديدن الاردن خلال السنوات والعقود الماضية، فقد واجهنا العديد من الازمات، الاقتصادية منها والسياسية والامنية والاجتماعية وحتى بعض الكوارث الطبيعية ، واستطعنا التغلب عليها بفضل التلاحم والتكامل والثقة المتبادلة بين الشعب وقيادته ، فالأزمات عادة ما تشكل جزءً طبيعياً من الحياة وسمة من سمات التطور خلال المراحل المختلفة من حياة الانسان والدولة وهي لا تقتصر على مجتمع دون اخر أو دولة بعينها ، ولكن ما يختلف هو أسلوب ادارة الأزمة وكيفية التصدي لتداعياتها والقدرة على مواجهة ما يترتب عليها من أعباء.
لعل من أهم متطلبات مواجهة الازمات هو توفر الاطار التشريعي والمؤسسي الملائم الذي يتيح القيام بالاجراءات الضرورية في الوقت المناسب مع توفر المصادر المادية والكوادر البشرية القادرة على التنفيذ وعلى تجسيد القرارات واقعاً عملياً على الارض، وهذه المنظومة تتجسد في الاردن من خلال مجموعة من الانظمة والقوانين المتمثلة في تشريعات الجهات ذات العلاقة والشريعات الخاصة مثل قانون الدفاع ، أما الاطار المؤسسي فلدينا عدد من المؤسسات الرسمية ، بما فيها مجلس السياسات الوطني الذي يضع الخطط لمواجهة الازمات التي تهدد أمن وسلامة الدولة ونظامها السياسي، وهناك ايضاً المركز الوطني للأمن وادارة الأزمات والذي أسس بهدف ادارة الازمات والتخطيط لمواجهتها وكذلك تنسيق وتوحيد الجهود المبذولة في هذا المجال للتتمكن الدولة من التكيف مع الازمات ومواجهتها ، كما يقوم المركز ببناء قاعدة بيانات وطنية باعتبار ذلك متطلباً يتيح النظر في مختلف السناريوهات والقرارات اللازمة لمواجهة الازمات والتصدي لها ويساعد في العمل على التسيق بين الجهات المختلفة وهو ايضاً مكلف بالتعامل مع الأحداث التي تهدد الأمن الوطني، ومعالجة القضايا التي تُحدث الخسائر بالأرواح والمرافق العامة والممتلكات، وتؤثر على الاقتصاد والرفاه الاجتماعي، وسلامة البيئة والصحة العامة ، كما أن لدينا ايضاً المجلس الأعلى للدفاع المدني الذي يرأسه وزير الداخلية ويشارك في عضويته عدد من الجهات الرسمية العاملة في مختلف المجالات ويعد أحد المؤسسات الرئيسية التي تقوم على ادارة الازمات عبر وضع الخطط وتشكيل الفرق وعلى مستويين أحدهما مركزي والاخر على مستوى المحافظة، وعلى المستوى الصحة لدينا اللجنة الوطنية للاوبئة، ومن الواضح ان هذه المنظومة المتكاملة لديها من المقومات ما يؤهلها لادارة الازمات بفاعلية ، خاصة اذا تم تطوير قدراتها ورفع مستوى التنسيق بين مكوناتها المختلفة وتوفير المصادر المالية والكوادر البشرية اللازمة لتمكينها من أداء مهامها ، حيث تتطلب ادارة الازمات جهات لديها الوعي الكافي والقدرات والامكانيات لاتخاذ قرارات ملائمة اجرائياً وزمنياً تتناسب وطبيعة الازمة التي تتم مواجهتها، وخلال ذلك لا بد من توفر القدرة على حشد الطاقات والامكانيات وتنسيق المهام والواجبات بين الجهات المختلفة للخروج بعمل متكامل يضمن الكفاءة والفاعلية ويتيح الحفاظ على أمن المجتمع وحمايته باعتبار ذلك من أهم واجبات الدولة تجاه مواطنيها.
نشهد حالياً أزمة لم يسبق ان واجهنا مثيلاً لها من قبل ، خاصة وانها تتعلق بحياة الانسان الذي هو أغلى ما نملك ، كما أن ما يميز هذه الازمة انها ليست محلية بل هي تمتد على نطاق عالمي، ونحن تأثرنا بها عبر انتقالها الينا من الخارج، ومن المؤكد انه لم يكن بالامكان منع وقوعها مسبقاً فالعالم اليوم متصل ببعضه بعضاً عبر شبكة معقدة من العلاقات والاتصالات التي تشمل مختلف جوانب الحياة ، ومواجهة هذه الازمة تستدعي ان ندرك بانه وفي ظل عدم توفر علاج أو لقاح مناسب لهذا الوباء حتى الان لا يتاح لنا الحديث عن منع الاصابة به ، ولكن لا زال بامكاننا العمل على منع انتشاره والسيطرة عليه من خلال التعامل مع أساليب نقل العدوى ، والدولة الاردنية بادرت الى اتخاذ اجراءات صارمة في هذا المجال بما في ذلك حجز وحجر المشتبه باصابتهم او المصابين واغلاق المؤسسات التعليمية المختلفة، وأماكن التجمعات، وتعطيل عمل المؤسسات الرسمية والخاصة ودور العبادة وصولاً الى حظر التجول واغلاق مختلف المنشات باستثناء القليل منها وبما يضمن استدامة حياة المواطنين، هذا اضافة الى توفير المستلزمات والكوادر الصحية القادرة على التعامل مع المصابين وتلك التي تؤمن اجراء الفحوصات اللازمة ، ومن الواضح ان هذه الاجراءات تهدف الى عدم السماح بانتقال العدوى الى الاصحاء باعتبار ذلك هو الاولوية الراهنة، وبالرغم من فعالية وكفاءة هذه الاجراءات الا ان النتيجة النهائية ومدى جدواها يعتمد بدرجة كبيرة على المواطن نفسه ومدى التزامه ، وبالرغم من بعض الظواهر غير المتناسبة مع هذه الاجراءات والتي ظهرت بعض الاحيان ، الا انه من الصعب توجيه اللوم الى جهة بعينها لاعتبارات متعددة منها ما يتعلق بطبيعة الازمة ومنها ما هو متعلق بطبيعة استجابة المجتمع وما قد ينتج عن ذلك من هلع يؤدي لعدم تقدير الموقف بشكل موضوعي، خاصة مع ترسخ بعض العادات الاجتماعية وانماط التواصل بين افراد المجتمع، وهنا من المفيد ان نشير الى اننا كنا وما زلنا بحاجة الى التأثير على السلوك الاجتماعي وترسيخ مفهوم المسؤوليىة الاجتماعية بما في ذلك الحرص على عدم نقل العدوى والابلاغ عن الحالات المشتبه بها وايجاد نمط مختلف من السلوكيات يتمثل في التباعد المكاني بين المواطنين والعزل الاختياري تجنباً لانتشار الوباء ، ومن المؤكد ان هذه ليست مهمة سهلة في ظل ما تعودناه من سلوكيات. وهنا يأتي دور وسائل الاعلام الرسمية منها والخاصة ودورها في أوقات الازمات، فعادة ما ترتفع شعبية وسائل الاعلام في مثل هذه الاوقات وتصبح وسيلة المواطن في الحصول على المعلومة الموثقة والصحيحة، وفي مثل هذه الاوقات تساهم وسائل الاعلام ليس في نقل وتغطية الاحداث فقط بل في صنعها ايضاً وهذا ما يمكن ان نطمح له بحيث تصبح اداة لتغيير السلوك باتجاه ايجابي والتوعية بالمخاطر وايجاد حالة من التكاتف بين افراد المجتمع والسلوكيات التي تضمن تحويل الافراد من متلقين الى مساهمين في مواجهة الازمة، خاصة وان الجهات الرسمية تتعامل حالياً مع هذه الازمة بشفافية وتعاون تام مع مختلف وسائل الاعلام ، وقد تفوقت في ذلك على نفسها وضربت مثالاً مشرفاً في القدرة على التواصل وتلبية الحاجة للمعلومات بحيث أصبح الكثيرون يتمنون استمرار هذا النهج الواضح والشفاف في التعامل مع وسائل الاعلام وتزويدها بكل ما تحتاجه من بيانات ومعلومات وبشكل منهجي ومنتظم، وهذا يعد مؤشراً مهماً في قدرة الجهات الرسمية على التعامل بكفاءة مع ادارة الازمة وعلى أعلى المستويات. وفي ظرف الازمة تحتاج وسائل الاعلام للتسلح بالمهنية والحرفية لكي لا تهول الامور وتبالغ في التعاطي معها، وان لا تقع ايضاً في مطب الاستهانة وعدم منح الاحداث حجمها الحقيقي، خاصة وان الازمات قد تؤثر على المواطن بشكل قد يدفعه لتصديق الشائعات في حال عدم تعاطي وسائل الاعلام بموضوعية مع الاحداث، وتؤكد الوقائع ان وسائل الاعلام الاردنية كانت على قدر المسؤولية وتعاطت مع معطيات الازمة الحالية بمنتهى الحرفية والكفاءة.
تبين التطورات في الايام الاخيرة أهمية القوات المسلحة والاجهزة الامنية ودورها الفاعل في ادارة الازمة عبر تعاونها مع مختلف أجهزة الدولة وتولي العديد من المهام والواجبات التي ما كانت لتنفذ لولا الكفاءة والانضباطية والامكانيات المادية والبشرية التي تتمتع بها المؤسسة العسكرية، أضف لذلك القدرة على حشد المقدرات والجهود في وقت قياسي لضمان تنفيذ دورها والقيام بالواجبات الموكلة لها في مختلف الاوقات وعلى مساحات جغرافية واسعة ، كما ان خبرات كوادرها البشرية اهلتها لتساهم بشكل مباشر في الرعاية الصحية للمواطنين وتأمين احتياجاتهم الحياتية والحفاظ على أمنهم واستقرارهم، وقد اتضح جلياً ان الدولة الاردنية بمختلف أجهزتها استطاعت ان تتكامل بشكل لافت وان تستقطب الاهتمام من مختلف فئات المجتمع وأن تكتسب ثقتهم بجدارة واستحقاق عبر اداء فاق التوقعات وبين اننا قادورون على الاداء الميداني المكرس لخدمة المواطن والحفاظ على حياته ومصالحه المختلفة والتوفيق بين مكافحة الوباء والحفاظ على استمرار تزويد المواطنين باحتياجاتهم المختلفة، وتزويدهم بما يحتاجوته من متطلبات حياتية ،بما في ذلك الاستفادة من التكنولوجيا الرقمية وتسخيرها لتوفير التعليم عن بعد لطلبة المدارس والجامعات وتوفير حد أدنى من القدرة على اجراء المعاملات المالية والحفاظ على سلسلة التوريد والتزويد للمواد الاساسية وغيرها من الجوانب الهامة. وقد أثبت القطاع الصحي في الاردن قدرته وامكانياته الفائقة في التعامل مع الظروف الاستثنائية ، عبر فرق الاستقصاء الوبائي ومن خلال توفير المستلزمات الطبية والصحية وتكامل عمل القطاعات المختلفة ،الحكومية والعسكرية والخاصة، كما أثبتت الكوادر البشرية في هذا القطاع حرفيتها العالية وتأهيلها المميز الذي يمكنها من التعامل مع مختلف التطورات وقدرتها على البذل والعطاء بالرغم من كل الظروف ، لذلك فمن واجب المواطنين مساندتهم والتخفيف عليهم لتمكينهم من مواجهة الحالات التي تستدعي ذلك ، مع تقدير الاولويات التي تفرضها الظروف الحالية.
التحديات التي تفرضها الازمة الحالية لا تقتصر على الجانب الصحي بل تشمل العديد من القطاعات الحيوية وخاصة الاقتصادية منها، وقد وضعت الدولة الاردنية نصب اعينها الحفاظ على صحة المواطن وحماية المجتمع من تفشي الوباء، حتى ولو أدى ذلك لاثار اقتصادية ذات تداعيات انية ومستقبلية ، وهذا التوجه مفهوم ومقدر الا أننا اُجلاً أم عاجلاً سنجد انفسنا مضطرين للبحث في الجوانب الاقتصادية لهذه الازمة وكيفية ادارتها والتصدي لها وهذا ما سوف نتناوله بالتفصيل في وقت لاحق ،مع التأكيد بان أولويتنا الحالية هي الحفاظ على صحة وسلامة الاردنيين والمقيمين في المملكة.