الأمن الوطني وإدارة أزمة كورونا
أحمد محمد الحويان
لعل أهم مرتكزات الأمن الوطني لأي دولة هو توفير الحماية لمواطنيها، بأشكالها المختلفة وتجنب الوقوع في أزمات، تضر بمصالح ومكونات المجتمع، فيمكن قياس مؤشر الأمن الوطني، من خلال مدى قدرة الدولة على حماية شعبها وأرضها واقتصادها ومصالحها وعقائدها من أي اعتداء، بالإضافة إلى التصدي للتحديات الداخلية والخارجية وقياس مستوى المخاطر، وإيجاد حلول متوازنة من شأنها توحيد الصفوف لحين العبور من الأزمة إلى بر الأمان.وللأمن الوطني جوانب وأبعاد متعددة، منها ما هو مرتبط بالجوانب الاقتصادية والاجتماعية والتنموية والسياسية والعسكرية والايدولوجية وغيرها، على مسار تحقيق الأمن الشامل.فيما تتطابق المرتكزات الأساسية للأمن الوطني للدول المختلفة الا أن مقوماتها تتباين، من دولة إلى أخرى وفقاً للإمكانيات المادية والبيئة الداخلية والخارجية، ومستوى الجاهزية وسرعة الاستجابة إلى الظرف الطارئ بأقل كلفة، وأقصر فترة زمنية ممكنة، وتجدر الإشارة إلى أنه لا يمكن استغلال هذه المقومات بالشكل الأمثل، دون توفر منظور استراتيجي، مبني على مراجعة للماضي والوقوف على واقع الحال واستشراف للمستقبل.وفي هذا المقال، لابد من التركيز على أن مدى قدرة أي دولة للمحافظة على مستويات امنة من الأمن الوطني يتجلى في مدى جاهزيتها وقدرتها على الوفاء بالحد الأدنى من المتطلبات الأساسية للمواطنين، وتوفير مخزون استراتيجي من السلع والمواد الغذائية الأساسية، وكذلك متطلبات الأمن والأمان والسلامة العامة والرعاية الصحية وخدمات التعليم ...الخويعد النموذج الأردني في التصدي لجائحة كورونا، من انجح التجارب على مستوى العالم، بالرغم من تواضع القدرات والإمكانات الوطنية والموارد الاقتصادية، وذلك بشهادة العديد من المؤسسات الدولية وقادة الرأي على مستوى العالم، فقد تم إقرار حزمة تدابير احترازية مبكرة لاحتواء الفيروس من إغلاق الحدود وإغلاق المتاجر غير الضرورية... الخ.
كما استخدمت الحكومة أسلوب التدرج في احتواء أزمة الوباء المستجد ممثلة بأذرعها التنفيذية كافة، وبدراسة متأنية للممارسات الدولية حول مدى تفشي المرض، وضمن منظومة إجراءات متكاملة اتسمت بالتكاملية والمرونة والحيادية، وفقاً لواقع الحال المحلي والدولي المتعلق بالوباء، حيث كان الهدف الرئيسي من سلسلة الإجراءات والقرارات التي تم اتخاذها هو توفير منظومة حماية صحية، واقتصادية، واجتماعية، وتنموية هدفها احتواء الأخطار الداخلية والخارجية، التي تهدد الأمن الصحي للمملكة، وإيجاد السبل الكفيلة بمعالجتها.وبقيادة استشرافية وتوجيهات حكيمة من لدن صاحب الجلالة الهاشمية الملك عبد الله الثاني ابن الحسين المعظم (حفظه الله ورعاه) ومتابعة حثيثة من جلالته وولي العهد الأمين سمو الأمير حسين ابن عبد الله، كانت الأوامر الملكية السامية استباقية وتصب في بوتقة تعزيز مبادئ الأمن الوطني وقيمه الأساسية، حيث أنتج ذلك تدخلات متناغمة ومتناسقة ومتكاملة ومواكبة للتطورات ضمن منظومة مهنية يشاد لها بالبنان بكل المقاييس وبترحيب شعبي واسع.مما لاشك فيه أن أزمة كورونا الدولية هي واقع حال جديد، لم يسبق للعالم أن واجه جائحة مماثلة في العصر الحديث منذ القرن التاسع عشر إبان فترة تفشي وباء الطاعون الأسود للمرة الثانية في أوروبا، متسبباً بوفاة عشرات الملايين، وما اود الوصول إليه هنا أن حزمة الإجراءات الاقتصادية - على وجه التحديد - التي تبنتها الحكومة اتسمت بالشجاعة في حين تم اتخاذها على نحو طارئ، وضمن بيئة ضبابية مستجدة، وبظرف استثنائي محفوف بالمخاطر، سيما وأنها جاءت على المستوى الكلي وعلى نحو غير مسبوق، وبانعدام توفر نموذج اقتصادي يمكن اتباعه لهذه الغاية، وكان هدفها الأساسي هو تعزيز منظومة الأمن الوطني بأشكاله المختلفة صدعاً للأمر الملكي السامي.فقامت الحكومة بالإشارة ضمن رسائلها الإعلامية إلى أن ما تم اتخاذه من إجراءات خاضع للتقييم والتغذية الراجعة، كون الظرف مستجد وقد تم العدول عن بعض القرارات، وسن قرارات جديدة حسب التجربة العملية على أرض الواقع، ومن السابق لأوانه في هذه المرحلة تقييم التدخلات الحكومية كون خلية الأزمة المعنية بإدارتها من الجانب الاقتصادي هدفها الأساسي هو إدامة سلاسل.الإمداد والتزويد للخدمات.والسلع.الأساسية.لتوفير الاحتياجات الحيوية للمواطن وحماية القطاع الخاص والمرافق الإنتاجية وضبط منظومة إيقاع الاقتصاد الجزئي.
ويسجل للحكومة أنها تعاملت بشفافية في جميع الخطوات التي تم اتخاذها؛ لمكافحة الوباء ضمن منظومة إعلامية اتسمت بالمكاشفة، لمكافحة انتشار المرض وعدد الحالات والإجراءات المتخذة لاحتواء الأخطار، الناجمة عن تفشي المرض بأبعاد مختلفة وبنهج غير مسبوق.وبما أن الأمن الاقتصادي ركيزة أساسية من ركائز الأمن الوطني، ولكون مصير الاقتصاد العالمي قد أصبح يتسم بالغموض إلى حد غير مسبوق في هذه الفترة على وجه التحديد، فقد حان الأوان للتفكير بالتدابير الواجب مراعاتها تمهيداً لاستعادة الاستقرار الاقتصادي إلى المملكة لفترة ما بعد الأزمة بعد العودة التدريجية لفتح الأنشطة الاقتصادية المختلفة والدخول في مرحلة التعافي الاقتصادي، ضمن إطار متكامل يتضمن ما تم انجازه من الحزم التحفيزية التي تم إطلاقها ما قبل الكورونا، والإجراءات المتخذة خلال الأزمة، وما نطمح أن يكون الوضع ما بعد الأزمة.إن العزلة الإجبارية التي فرضها ظرف تفشي كورونا تتيح لنا فرصة غير مسبوقة، لإعادة تقييم أولوياتنا الوطنية، وذلك ابتداءً من استغلال مناسبة اجتماعات الربيع للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي الحاليين، وحصر الكلفة التي تكبدها الاقتصاد الوطني لغاية تاريخه على أثر تعطل رأس المال البشري وتأثر المشاريع الصغيرة والمتوسطة وقطاع السياحة وعائدات قطاع النقل والتحويلات المالية للمغتربين وغيرها، نتيجة مكافحة جائحة كورونا وعرضها على هذه المؤسسات الدولية وكذلك بيان مدى تأثر خطط الحكومة الاقتصادية ومشاريعها الكُبرى الحيوية كنتيجة للوباء المستجد، بالإضافة إلى استعراض التجربة الأردنية الناجعة في التعامل مع هذا الملف لغاية الان، في محاولة للاستفادة بالحد الأقصى من خطة المساعدات الطارئة التي أعلن عنها البنك الدولي الأسبوع الماضي والبالغ حجمها 160 مليار دولار؛ لدعم جهود التصدي لتداعيات انتشار فيروس كورونا، واستغلال أي دعم جديد ليغطي الأولويات الوطنية.ومن الأهمية على صعيد متسق محاولة الحصول على أسعار فائدة تفضيلية إلى أبعد الحدود على المديونية القائمة وفترات سداد أطول لأي تمويل متعاقد عليه في ضوء هذه الجائحة، والتي تتطلب تقديم الدعم للمملكة بنهج غير تقليدي - بحيث يتضمن على سبيل المثال لا للحصر تخفيف المؤشرات الإصلاحية المتعاقد عليها - ضمن إطار تقنين أثر وطأة الوباء المستجد على الاقتصاد الوطني.وإجمالاً، تشير القراءات إلى أن الأردن من الدول الأقل تأثراً من تداعيات الوباء في حال استمرار التدابير الوقائية للأسابيع المقبلة إلى حين الوصول إلى فترة الانحسار (بعون الله)، وقد أثبتت هذه التجربة على وجه التحديد توفر منظومة أمن وطني قوية ومتوازنة بأبعاد مختلفة وأنه بمقدرة المملكة اتخاذ تدابير من شأنها حماية مقدرات الوطن وقت الحاجة.ومما لا شك فيه أن هذه الأزمة قد لعبت دوراً في استعادة الثقة المتبادلة بين أفراد المجتمع والحكومة، وتعزيز قيم التكافل، الأمر الذي من شأنه أن يزيد الوطن منعة وقوة لفترة ما بعد الأزمة، لنصبح أقوى وأفضل مما كنا عليه.فالتجربة أثبتت لغاية تاريخه بأن الأردن قوي وقادر على مجابهة الأزمات ضمن نهج مؤسسي، ومن الممكن الاستفادة من هذه التجربة العملية لرسم انموذج منهجي، ستستفيد من معالمه الأجيال القادمة في مجال إرساء دعائم الأمن الوطني الشامل.وكل ذلك ما كاد أن يتحقق لولا وجود قيادة هاشمية مُلهمة تتقدم الركب ومُدركة لأولويات الوطن، وحريصة على المقدرات، وتتعامل بحكمة وتوازن، وتحظى بالثقة والمصداقية مُدعمة بمحبة الشعب والتفافه حولها، وكما قالها صاحب الجلالة الهاشمية الملك عبد الله الثاني ابن الحسين المعظم (حفظه الله ورعاه) "شدة وبتزول، إن شاء الله" و "أنتم قدها."