نعي الحياة الحزبية في الأردن … بقلم نضال منصور


أنباء الوطن -

قبل سنوات نعى الجنرال عبد الهادي المجالي الحياة الحزبية في الأردن مُعلنا حل حزب التيار الوطني الأردني.

الجنرال الذي خلع بزته العسكرية ودخل أتون السياسة والعمل الحزبي توصل لنتيجة مفادها أن الأحزاب في البلاد ديكور، وأن الحكومات تخنقها، ولا توجد إرادة سياسية للعمل الحزبي.

المجالي وبعد سنوات من “المباطحة” السياسية رغم قربه من السلطة قرر أن “يتقاعد” وأن يُخلي الساحة بعد أن يأس من فرص صناعة حزب سياسي بمكن أن يحظى بالحضور، ويُزاحم ولو قليلا الإسلاميين المستفردين وحدهم بالمشهد.

الجدار الذي اصطدم به المجالي ـ وهو من العمود الفقري للنظام ـ عاشها من جديد وزير البلاط الملكي الأسبق مروان المعشر الذي نعى هو الآخر الحياة الحزبية بعد أن استقال مع 24 من رفاقه ورفيقاته من حزب التحالف المدني الذي أُشهر قبل عام.

استقالة المعشر والكثير من الأسماء الوازنة في الحياة العامة من الحزب لم تكن مفاجئة بعد أزمات متلاحقة بدأت من حفل المؤتمر الوطني الذي ألغي في اللحظات الأخيرة، ولم تتوقف في الأخبار المتلاحقة عن خلافات تعصف في الحزب من الداخل.

يُجاهر المعشر في القول “الدولة لا تريد أحزابا، ولا تريد إصلاحا سياسيا”، هكذا يُلخص الوزير والدبلوماسي ما حدث، مُكملا “الحزب تعرض للاختراق من جهات عدة، والمضايقات أمنية مستمرة، ومنذ اللحظة الأولى كان مطلوبا إخراجي، ولا أعرف لماذا؟”.

المجالي خلع بزته العسكرية ليدخل أتون السياسية فتوصل لنتيجة مفادها أن العمل الحزبي “ديكور

المعشر مثل المجالي ليس معارضا، ورغم ذلك لم يهضمه “السيستم”، وحين سألت مسؤولا رفيعا في الديوان الملكي قبل أكثر من عام عن سر هذا الغضب من المعشر، أجابني بكلمات مُقتضبة “المعشر لم يعد يُعجبه شيء، ويُغرد خارج السرب، وينتقد كل يوم ما نفعله”.

كان المعشر وغيره آخرون يعتقدون أن حزب التحالف المدني سيحظى بترحيب الدولة، فهو يقتبس الكثير من أدبيات الأوراق النقاشية التي طرحها العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني عن الدولة المدنية، والمواطنة، وسيادة القانون، لكن ما حدث على النقيض والعكس؛ فالحزب أصبح موضع استفهام أمني، وفي سردية لم أفهمها كثيرا شرح لي مسؤول أمني مخاوفهم من إخفاق حزب التحالف المدني، وبالتالي التداعيات والتأثيرات السلبية التي يمكن أن تلحق بأفكار ودعوات الملك لبناء الدولة المدنية.

حين فازت قائمة “معا” كتعبير عن التيار المدني في الانتخابات البرلمانية الماضية تفاءلت باحتمال ولادة تيار أو حزب سياسي يمكن أن يكون مقابلا أو موازيا لحزب جبهة العمل الإسلامي ـ ذراع جماعة الإخوان المسلمين ـ بعد تعثر وسقوط أكثر التجارب الحزبية منذ عودة الحياة البرلمانية عام 1989، بما فيها لافتات لأحزاب وطنية كانت تأمل برعاية الدولة وأجهزتها الأمنية؛ لتملأ الفراغ وتتحول لحزب الدولة أو السلطة السياسية، ولكن شيئا من ذلك لم يحدث.

ظلت الثنائية السائدة والمسيطرة على المشهد السياسي، حضور طاغٍ للتيار الإسلامي، تُنازعه المكانة والتأثير المؤسسة الأمنية “المخابرات” التي تحظى بوجود في كافة مفاصل الدولة، وعدا ذلك تحولت الأحزاب للافتات تؤمن لقاداتها وجاهة ومكانة في الصالونات السياسية لعمّان.

الثنائية المسيطرة على المشهد السياسي.. حضور طاغٍ للتيار الإسلامي تُنازعه المؤسسة الأمنية

فشلت معظم التجارب الحزبية منذ عودة الحياة الديمقراطية قبل 30 عاما، وهو الأمر الذي دفعني للتساؤل في حضرة رئيس الوزراء الدكتور عمر الرزاز في لقاء مع الصحفيين قبل جائحة كورونا عن الأسئلة البديهية التي ما زالت تُناقش في البلاد، مثل ضرورة وأهمية وجود الأحزاب لترسيخ الديمقراطية، وتكريس مبدأ التداول السلمي للسلطة، وقارنت في هذا اللقاء بين واقع الأردن الديمقراطي بعد ثلاثة عقود وبين دول أوروبا الشرقية التي بدأت مشوار التحول الديمقراطي معنا، وأين وصلت هي الآن، وأين نقف نحن؟

ربما لا تجوز المقارنة، وربما يرى البعض أن الإشكالية الأهم أن بنية الأنظمة هناك مدنية، في حين تتنازع المكونات العشائرية والقبلية بنية المجتمع عندنا، ولا تكون بيئة حاضنة للتحولات الديمقراطية.

تجد هذه الأفكار قبولا وتفسيرات للإخفاقات الحزبية والديمقراطية في بلادنا، لكن المراجعة والتدقيق تشي بأن تجربة حزبية كانت غنية في الخمسينيات من العقد الماضي بالأردن، وأن الأحزاب السرية قُبيل هبة نيسان (أبريل) 1989 ولسنوات طويلة كانت تحظى بالقدسية، وكان الحزبيون مستعدون للتضحية وفقدان حريتهم دفاعا عن أفكارهم ومبادئهم.

كان الراحل الملك الحسين بن طلال يقول “الازدحام يُعيق الحركة”، وفي الأردن الآن 48 حزبا مُرخصا، لا يُشكل مجموع أعضائهم، حسب استطلاعات رأي، عن نصف بالمئة من الأردنيين والأردنيات، ووفق مركز الدراسات الاستراتيجية التابع للجامعة الأردنية، فإن 2 بالمئة فقط من مجموع الناخبين ينتمي لأحزاب سياسية، في حين 6 بالمئة يفكرون بالانضمام لأحزاب مستقبلا.

لا تبدو صورة العمل الحزبي مُشرقة وزاهية، والملك عبد الله في أكثر من مناسبة كان يتحدث عن ضرورة ترشيق الأحزاب لتصبح تيارات سياسية ثلاث لها برامج تُقدمها للناس، واعتبر حدوث ذلك خطوة أساسية نحو تداولٍ سلمي للسلطة، وتشكيل حكومات حزبية تحظى بأغلبية برلمانية.

هذا ما يطلبه الملك، لكن ذلك لم يحدث رغم مرور 20 عاما على توليه سلطاته الدستورية، بل تبدو الأحزاب في معظمها في الرمق الأخير، وحزب التحالف المدني دليل على الولادة من الخاصرة، والاحتضار قبل إطلاق رصاصة الرحمة.

التحالف المدني ليس ضحية للتآمر فقط، وإنما لأمراض الزعامة والرغبة في الاستحواذ

كان حزب التحالف المدني واعدا بالتغيير رغم التربص به، والسكاكين التي شُحذت لذبحه، وما زلت أتذكر ما كتبته النائب الإسلامي ديما طهبوب حين إشهاره “كل المعادين للدين في الحياة العامة مجتمعين في حزب جديد، هل ينقص البلد عداء للدين في شكل حزب مرخص”، وكنت أتمنى لو شب عن الطوق وانضممت له بعد طلاقي للعمل الحزبي منذ بداية التسعينيات، لكنني بعد أن استمعت لشهادات مجموعة من قياداته لا أعتقد أنه ضحية لتآمر حكومي ـ أمني فقط، رغم أن هذه الأطراف ليست بريئة من دمه، وإنما والحال كذلك هو ضحية لأمراض الزعامة والرغبة في الاستحواذ من قيادات داخل الحزب معروفة، ويُشار لها بالبنان، وما زالت تسعى لتطويعه لأجندتها.

النائب خالد رمضان الذي فاز عن قائمة “معا” التي رفعت شعار مدنية الدولة في الانتخابات البرلمانية السابقة، ولم ينضم إلى حزب التحالف المدني، لم يُخفِ انزعاجه من تعثر تجربة الحزب، منوها إلى أن أي فشل لتجربة تيار مدني تؤثر على الجميع، بما في ذلك تجربة رئيس الوزراء عمر الرزاز الذي حُسب أيضا على التيار المدني في بداية توليه رئاسة الحكومة.

رمضان الذي لم يشارك في تأسيس الحزب يعترف أن التيار المدني مروحة عريضة ولا أحد يمكنه احتكاره.

إعلان استقالة 24 قياديا من حزب التحالف ربما لا يُنهي الحزب، ولا يقضي عليه تماما، ولكنه كان بمثابة إعلان وفاة لحلم محتمل بولادة حزب مدني يرفع شعارات طال انتظارها.