حدث في العام 1974
ضحى عبد الخالق
أبحث هنا بالسؤال ما إن كانت الحركة النسوية في الأردن قد ابتدأت عندنا كحراك سياسي؟ أم كحراك اجتماعي؟ فمن الواضح أن العدد الكافي من النساء لدينا كن قادرات على التحشيد والعمل بقضية المرأة طوال الوقت، وملاحظتنا هي أنهن كن مدفوعات بمنطلقات (الحقيقة العليا).
وللتعريف هنا هي “منظومة القيم التي قدمت من المنطقة العربية فكر المساواة بين الرجل والمرأة بمثالية مفرطة من باب العدل وحقوق الخلق والخالق، ولكن ليس بالضرورة كبند أول للسياسة التنفيذية العامة الملزمة ببنودها الدستورية والقانونية والمالية والإجرائية الكاملة”. ثم لنتذكر بأن حق (الاقتراع والترشح)، هو الشيء الذي منحة ملك البلاد للنساء في العام (1974). حدث هذا من دون مظاهرات دموية أو حراك عنيف مقارنة بما مرت على سبيل المثال به نساء الولايات المتحدة الأميركية اللواتي خرجن الى الشارع وضربن وحبسن تحديدا (من أجل القضية).
لم تشارك النساء لدينا في مظاهرات (دامية) بهذا المعنى. لم يحترقن في المصانع ولم يقرعن على الطناجر أو يخلعن السوتيان، لم يهجرن العائلة والعمل ولم ينادين قط بفكر لا أخلاقي، لكن من الأكيد أنهن نادين بالحقوق وبتساوي الفرص وبالإصلاح بعدسة وبفكر المرأة.
كما وبت أعتقد بأن منح حق التصويت المبكر للمرأة في العام 1962 في بلدان عربية أخرى، كان جزءا من البروباغاندا الحزبية وضرورات فكر التحرر بتلك المرحلة، وليس الخيار الطبيعي للمجتمع الذكري الذي بقي كذلك، سلطويا ومنفردا على الرغم من الإيديولوجيا وعلى الرغم من الحزب.
وحين منحت (سويسرا) حق التصويت للمرأة في العام 1971، لم يبد منح حق الترشح للمرأة لدينا في العام 1974، ثم ظهور وزيرة سيدة في العام 1979، بالشيء المتأخر تماما! لكل ما سبق، أعتقد بأن النسوية لدينا كانت مدفوعة بقرار سياسي نحو المشاركة كرافعة للمواطنة والإصلاح العام في الأردن، وأيضاً لأن النساء كن سيطالبن بالحقوق وبالمساواة بكل الأوقات بلا استئذان وبغض النظر عن طبيعة النظام السياسي وهي ملاحظتنا الأولى. عندما شاركت السيدات لدينا في حقبة الخمسينيات بالحياة الحزبية، فقد عانين ما عانين؛ أولاً، من مطاردة بسبب الإيديولوجيا أم أثر اعتقالات لأفراد العائلة الواحدة أو بسبب نفيها، وثانياً، عندما تم إلغاء حق الاقتراع في العام 1957 وليفهم ذلك كنوع من العقاب.
وهنا حدث الشق الأول ما بين التيار النسوي الرسمي المتنور والنسوية المتنورة، وما تحول في زمن آخر الى حس جمعي بأهمية الدستور والتخطيط بفكر المصالحة الوطنية. الكاتبة هنا من جيل صبايا الثمانينيات عندما تم تقديم اليسار كمرجعية لفكر تحرر المرأة، ثم سعدت صغيرة عندما تم تعيين النساء في المجلس الاستشاري الأول في العام 1978 وإن التقط ذلك كإجراء شكلي، لحياة حزبية قد تعطلت. هذا وعند تعيين نساء مذهلات بالمجالس الاستشارية الأولى حتى العام 1984 وهن للذكرى (انعام المفتي، نائلة الرشدان، وداد بولص، عدوية العلمي، جانيت المفتي، ليلى شرف، هيفاء البشير، وعيده مطلق)، بقي سؤال مثل تهمة لماذا هي؟ وكيف وصلت امرأة بعينها الى مركز بعينه؟ وقد يكون لهذا تفسير نابع من شراسة التنافس بين أفراد الجنس الواحد، أو لندرة المتاح من الفرص.
لازمت صفة المحسوبية القائدات الفذات والعالمات والمستقلات فقط لمجرد أنهن ظهرن من صلب عائلات سياسية أو اجتماعية بعينها. تهمة أخرى بقيت جاهزة على مستوى المنطقة وهي الواسطة منذ أن تعينت زوجة للرئيس في تونس، كوزيرة في العام 1983، هذا بعد إقصاء امرأة معارضة من الاتحاد النسوي المعارض هناك. وعندما أسهبت نوال سعداوي من مصر فهمت كمعارضة للدين، ولهذا باعتقادي لا تتطرق القيادات النسوية قط في الأردن للقضايا الصعبة، ومن بين ذلك الإصلاح الديني، وهو للتوضيح عكس العداء للدين، وهي تهمة أخرى، بقيت جاهزة لهن عند نقاش عدد من القضايا وقضايا الأحوال الشخصية على وجه التحديد. ولا ننسى مناكفة أول نائبة منتخبة في الأردن في العام 1993 توجان فيصل، أو بلبل المعارضة النسوية حينها أسمى خضر، أو غرفة الدراسة في كلية القانون في الجامعة الأردنية ومحاكم أوائل الثمانينيات التي كانت مزدحمة بالرجال، ثم لأعيش وألتقي بأول قاضية، وأول قاضية في المحكمة الدستورية العليا، لتكون زميلة لي في مجلس الأعيان واسمها تغريد حكمت في العام 2020!
وقد حدث هذا لي في فترة أربعة عقود! للفتاة الصغيرة التي حضر والدها من غرب النهر ضيفاً وسيداً كريماً، الى أرض الهاشميين. لم تتمكن المنظومة في العالم العربي من تحقيق فضاء متساو أو غير عنصري للنساء، ما أظهر التنظيمات العلمانية بأنها قد فشلت من تحقيق وعدها الكامل بـ”حرية المرأة” ليظل معنى ومرجعيات ذلك بالضبط مجهولا لليوم، ما سيستدعي لدينا نقاشا وتوافقا أوسع حول الدستور والقانون.
منذ عاند الأردن في رحلته الخاصة نحو قوة الدولة بمثالية القائد الحسين، أضفى هذا الميزة والرفعة للنساء عبر الإيمان بفكر الاستقلال، وبالقدرة على تصور الكمال وعلى تصور المستقبل. ومنذ تلك التواريخ ولليوم وعدد كبير من القائدات الأردنيات يشققن الصخر بعملهن وموهبتهن للانخراط في الشأن وفي العمل العام. بالذهن صور ظلت ثابتة لسيدة ولزوجة نبيلة وهي (تدثر) القائد الرسول، وأخرى للشاعرة الفصيحة ابنة القبيلة النافذة وهي تحكم من وراء الساتر، مطبوعات، مثل رواية لا تنتهي. وفي الشأن الاقتصادي شكل التعليم الأداة الأولى، العابرة للطبقة ومنح الزواج ومنحت العائلة رافعة اقتصادية أخرى لنساء عندما ارتفعت الملكية الاقتصادية منذ السبعينيات عبر بيع الأرض والإرث، وتطورت الأعمال من إسناد دول البترول.
أظهرت نسوية الطبقة الوسطى مهارات عمل جديدة وانخراطا في مؤسسة التعليم والصحة وظهورا للقطاع الخاص. خطوة بخطوة ويوما بيوم ولتدرك المرأة الأردنية قيمة العمل والإنتاج والاستقلال، ولتخطو بحماس نحو الألفية الثانية بنساء اقتحمن بقوة عهدا جديدا وبوظائف بزغت لهن بجرأة وباستحقاق، ومن بينها ظهور أول نائبة لرئيس الوزراء في الأردن ريما خلف، وكانت الخطوة الكبيرة.
وظهرت المرأة بوضوح في مؤسسات الدولة، بالجيش والأمن والقضاء وفي الدبلوماسية والطيران والطب والهندسة والتكنولوجيا والتجارة. ومن أهم خصائص الألفية الثانية، وبالتحديد بعد العام 2010، أنها أظهرت نساء المحافظات بقوة بحيث دفعن نحو المشاركة وفككت المرحلة النخبوية (العمانية) في العمل النسوي. ثم ازدحمت الساحة بمنظمات حقوقية محلية ودولية كلها نادت بحقوق المرأة وتصاعد الفكر والحراك المدنيين. قدم العالم الالكتروني فضاء جديداً معززاً لسردية المرأة، وإن أحضر معه ظاهرة أخرى اسمها (التنمر الالكتروني) الذي أرعب النسوة من العمل العام، ولكن أدى لقبول القوانين المقيدة من مثل قانون الجرائم الالكترونية. واستمر التشبيك النسوي، فظهرت القضايا العالمية النسوية كأنها محلية على شاكلة حركة “أنا أيضا”، التي تمكنت من توحيد نساء العالم من دون خجل حول قضايا حساسة بعينها من مثل قضية التحرش. وما نتج من قبول لتعديلات جديدة في قانون العمل الهادفة اليوم في الأردن الى تمتين بيئة عمل آمنة للفتيات وللنساء العاملات وللموظفات كإجراء ضروري نحو التمكين الاقتصادي ونحو الأمن الاجتماعي.
وعندما سلط الإعلام الحديث الضوء على المسائل العمالية من رعب مصانع الحرير وشركات التصنيع العابرة للحدود وتجارة الرقيق الأبيض في العالم، تمكن الأردن من تمتين وضع المناطق الحرة المشغلة للنساء ومراجعة حقوق المستخدمة الأجنبية بشكل حضاري بالتركيز على مبدأ حرية العمل والحرية الدينية. وعليه، من الأكيد أن النساء كن، وعلى الدوام، مدفوعات نحو بيئة أفضل ونحو الحراك السياسي لأكثر من سبب وبأكثر من طريقه، لكن كل هذا رسمته (ريشة جماعية) للبلاد في فترة مائة عام من عمر الدولة. لقد حدث هذا ببطء وبراغماتية شديدة وهي ملاحظتنا الثانية، ولكن ما تم إنجازه من مكتسبات هي حقيقية في بلاد سكنتها الملكات والأميرات والنساء القويات والشيخات والسياسيات المتعلمات والعاملات والصحفيات الإعلاميات والفنانات، وكلهن أمهات.
لقد تشكلت الحركة النسوية لدينا من صلب المجتمع الأردني وتطور النسوية العاملة بالشكل الطبيعي ولا عودة هنا الى الوراء. كما وسيبقى طلب المساوة الكاملة غير المنقوصة للمرأة الأردنية وتعريف ذلك بمسطرة الدستور هو النقاش المفتوح ولآخر العمر! ليس فقط في الأردن والعالم من حولنا قد تغير.
*عضو مجلس أعيان سابق
حقوقية وناشطة في الشأن الاقتصادي والنسوي