البوتاس العربية نموذجاً أردنياً حياً
د.سامر ابراهيم المفلح
أتمّت المملكة الأسبوع الماضي مئويتها الأولى وقد قطعت شوطاً كبيراً في شتّى المجالات، فمنذ تأسيس إمارة شرق الأردن في العام 1921 شهدت البلاد تطوراً حقيقياً شمل إنشاء البنية التحتية التعليمية والصحية والعمرانية، وقامت دولة المؤسسات والقوانين، وارتفعت معدلات التنمية البشرية ومستويات الدخل للمواطنين.
خلال القرن الماضي صار العمل على إعداد اقتصاد حر مُنفتح على العالم، وإنشاء شركات وطنية كبرى في شتّى القطاعات والمجالات ولعل من أهمها في القطاع الصناعي شركة البوتاس العربية، والتي تأسّست عام 1956 وباشرت عمليتها التصنيعية في العام 1982.
واجه الأردن على مدار تاريخه المعاصر مجموعة من التحديات، واستطاع دوماً تجاوزها بفضل قيادته الحكيمة، وإخلاص شعبه المعطاء أوصلنا لبناء دولة حديثة تتطلّع إلى الأمام وتصبح في مصاف دول العالم تصبو دومًا إلى المزيد من النجاحات.
يبرز الملف الاقتصادي اليوم؛ ليكون في أولويات التحديات الراهنة، فمع مديونية ومعدلات بطالة مرتفعة ومحيط جيوسياسي ملتهب، واقتصاد عالمي يعاني من انكماش مضطرد بسبب الحالة الوبائية، يُشكّل الهاجس الاقتصادي الهمّ الأكبر الذي ينبغي العمل على إيجاد حلول نوعية مبتكرة وتكاملية لتجاوزه.
إن قصص النجاح الحقيقية تولد من رحم الأزمات، وقد تزامنت احتفالات مئوية الدولة مع إعلان شركة البوتاس العربية نتائجها النهائية أمام هيئتها العامة عن العام 2020، فكانت هذه النتائج مُبهرة بجميع المقاييس، واستطاعت الشركة توزيع أرباح بقيمة تجاوزت 83 مليون دينار على المساهمين، وبنسبة 100% من رأس المال، بعد أن سجّلت صافي أرباح بلغ 127 مليون دينار أردني.
أما على مستوى الاقتصاد الكلي، فبالإضافة إلى دفعها لخزينة المملكة الأردنية الهاشمية حوالي 80 مليون دينار، فقد شكّلت مبيعات البوتاس وشركاتها التابعة ما يقترب من 10% من قيمة الصادرات الوطنية، والذي يُسهم بدوره في ترجيح كفّة الصادرات في الميزان التجاري الأردني الذي يعاني من عجز دائم، كما ورفدت احتياطي العملات الأجنبية في المملكة بما مجموعه 1 مليار دولار خلال العام 2020.
مما يدعونا إلى التأمل في النتائج المُتحقّقة أنها أتت في وقت عانى فيه العالم بأسره من إغلاقات، وتعطّلت فيه سلاسل الإمداد، وتعثّرت العديد من الشركات، إلا أن هذه الحالة الأردنية الوطنية برهنت على أن الأردنيين قادرون في أصعب الظروف على صنع المعجزات.
فبالإضافة إلى النجاحات المالية، تمكنت الشركة من الدخول إلى أسواق عالمية جديدة، وتعدّت الدول التي تم التصدير إليها 40 بلداً في ست قارات، ووصلت مستويات إنتاجها إلى أرقام قياسية تجاوزت 2.6 مليون طن من مادة البوتاس، كما طوّرت الشركة منتجاتها بشكل ملحوظ وفي فترة قياسية، وأتمّت مشاريعها وخططها على أكمل وجه، وتعاملت مع الحالة الوبائية بحرفية وإتقان.
ولم تألُ الشركة جهداً في تقديم الغالي والنفيس لوطنها ومحيطها وواصلت الدعم المجتمعي الذي برز بشكل واضح خلال الجائحة، حيث دعمت بما قيمته 30 مليون دينار جهود الدولة في مكافحة جائحة كورونا وتبعاتها، والذي يُعدّ الأعلى مقارنة بالشركات العاملة في المملكة.
قد يتساءل البعض كيف لهذه النتائج أن تتحقق في ظل التحديات المحلية والدولية، والتي عانى منها الأردن والعالم في العام 2020، تزامناً مع معاناة صناعة البوتاس عالمياً من تحديات كبرى تمثّلت بانهيار أسعاره في الأسواق العالمية، حاله كحال العديد من السلع الأساسية، وكيف يمكننا البناء على هذا النموذج والاستفادة منه، فبعد التوفيق من الله تتمثّل عناصر نجاح هذه الشركة بمجموعة أساسية من الأسباب.
أهم هذه الأسباب القيادة الواعية المُحفّزة والمستشرفة للأحداث، فقبيل تفاقم الحالة الوبائية، وضعت الشركة خطة محكمة واستراتيجية للتعامل مع الأزمة، وأشرفت على تنفيذها، ولاقت الدعم السياسي من أعلى المستويات، فقد شرف جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين وولي عهده الأمين الشركة بزيارة ميمونة في خضم الأزمة الوبائية، وأنعم عليها لاحقًا بوسام الملك عبدالله الثاني ابن الحسين للتميز من الدرجة الأولى، تقديراً لدورها في دعم الاقتصاد الوطني، واستمرارها بعمليات الإنتاج والتصدير بكفاءة في ظل أزمة كورونا، مع الالتزام بمعايير الصحة والسلامة العامة.
ثاني الأسباب كان “موظفي الشركة” وتفانيهم وإيمانهم بضرورة العمل واستمرار عجلة الإنتاج، واجتمعت الأهداف والرؤى والخطط والتطلعات مع جنود اقتصاديين أوفياء، نذروا أنفسهم وعلمهم وعملهم ومعرفتهم لاستمرار الإنتاج بكل حرفية وإخلاص، يأتي هذا الجهد تزامناً مع تولّي الإدارة العربية بالكامل دفّة قيادة هذا الصرح الاقتصادي الهام.
ثالث الأسباب الرئيسة هي الحالة التكاملية والانسجام التام مع الشركاء، خصوصاً الأجهزة الرسمية والحكومة التي تجاوبت بشكل إيجابي مع المعطيات، وكانت المُيسّر والحاضن الرئيس لاستمرار أعمال الشركة في ظل الظروف الاستثنائية.
تُشكّل شركة البوتاس العربية نموذجاً أردنياً حياً، وحالة دراسية يمكن البناء عليها، وتعميمها، لتجاوز التحديات الاقتصادية القائمة، إذ يزخر الأردن بالعديد من الثروات الطبيعية، ويتمتع بالكثير من الميز التنافسية، وفيه الشباب الواعد والشركات والمؤسسات الاقتصادية.
لتوظف هذه العناصر بالنهج الصحيح القائم على التخطيط السليم والإخلاص في العمل والعمل بروح الفريق، وتشرف عليه قيادات اقتصادية صاحبة رؤية طويلة الأمد ليخرج الأردن كما استطاع دائماً قوياً منيعاً أمام التحديات.