عن محنة الفن والثقافة في الأردن


أنباء الوطن -

محمد ابورمان

كان السبت الماضي يوماً حزيناً ومؤلماً لأردنيين كثيرين، عندما فقدوا مطرباً جميلاً متّعهم بصوته وأغانيه سنوات، متعب الصقار، غنّى للوطن والمجتمع والدولة، وكان متواضعاً وقريباً من قلوب الناس، لكنّ حاله من حال الغالبية العظمى من زملائه الفنانين الكبار لم ينج من الظروف الاقتصادية الصعبة، على الرغم من شهرته وموهبته التي مكّنت مطربين وفنانين عربا كثيرين، ممن هم أقل شأناً منه، أن يعيشوا في أوضاع أفضل بكثير.

قبل ذلك بأيامٍ، كان نقيب الفنانين السابق، ساري الأسعد، يفجّر جدلاً هائلاً على مواقع التواصل الاجتماعي، عندما تحدّث عن مسلسل اجتماعي كوميدي أردني (أم الدراهم) كان يفترض أن يعرض على شاشة التلفزيون الأردني، ثم لأسباب غير واضحة، يقال إنّها رقابية ساذجة، منع من العرض، وخسر الفنانون والمنتجون جهودهم في شهور من العمل الكادح، على الرغم من شحّ الإمكانات والموارد، وفي ظروف صعبة يعاني فيها الفنانون الأردنيون من الفقر والبطالة وغياب الإنتاج.

ذلك هو رأس جبل الجليد، أمّا ما خفي فكان أعظم بكثير للآسف، ففنانون ومطربون ونجوم معروفون عربياً قدّموا للفن إنتاجاً جميلاً، بعض أغانيهم الوطنية ما تزال تسكن في ذاكرة الأردنيين، وآخرون أدوارهم وأعمالهم كانت تبث على الفضائيات العربية، ويشاهدها الملايين، عاشوا ورحلوا في ظروف مأساوية وكارثية، بعضهم كان مطلب عائلته أن يتم سداد أجرة منزله المكسورة، وآخرون ما تزال عائلاتهم تعاني في سداد ديونهم.

قبل أعوام، اعتصمت نقابة الفنانين لتطالب بحقوق بسيطة للغاية في أي دولة ومجتمع لأعضائها؟ من تأمين صحّي محترم وأساسيات الحياة؟ وعلى الرغم من وعود رسمية عديدة، النتيجة أن وضع الفنانين والفن يسير من سيئ إلى أسوأ. ويرى مراقبون أنّ حرب الخليج 1991 كانت نقطة التحول التي نقلت الفن الأردني من مرحلة الازدهار والصعود في الثمانينيات إلى الانهيار الكامل، بعدما فرضت مقاطعة خليجية على الأعمال الأردنية، وهذا صحيح، لكنّها مرحلة وانقضت؛ وكان يفترض أن يتم تجاوزها، وأن تعود ماكينة الإنتاج والفن إلى النشاط والعمل، منذ بداية الألفية الجديدة، لكن ذلك لم يحدث، بل حدث العكس، إذ استمر مسلسل الانهيار والتراجع.

ما السبب، إذاً، في ما وصلت إليه حالة الفن والثقافة والفنانين في الأردن؟ لن تجد وزيراً للثقافة (شغلت هذا الموقع قبل عامين) إلا ويشير إلى محدودية الإمكانات المالية، وشحّ الموارد الممنوحة للوزارة كمظلة للفن والثقافة، وهو صحيح 105%، فحالة وزارة الثقافة بائسة، ولا تكاد مخصصاتها تكفي الموظفين، وحتى جوائز على درجة كبيرة من الأهمية، كجائزة الدولة التقديرية، جمّدت أعواما بسبب شحّ الإمكانات. وما هو أهم من ذلك، والجملة الفاصلة في الموضوع، أنّه لا يوجد إدراك لدى الدولة بأهمية الفن والثقافة قوة ناعمة وضاربة للدولة. وكنت أقول إنّ ما يقال من أنّ الثقافة (بمعناها الواسع؛ الفن والأدب والتاريخ والرواية والموسيقى والخط العربي وغيرها) ليست من أولويات الدولة، وأنّها أمر ثانوي، ليس صحيحاً، لأنّ الأصحّ من ذلك أنّ الثقافة والفن لا تقع ضمن اهتمامات الدولة، أصلاً، لا الرئيسية ولا الثانوية.

وإذا كان هنالك من يحمّل قيمة الفن ونوعيته مسؤولية التراجع؛ فذلك أمر طبيعي عقودا من الجمود والتوقف الحقيقي عن الإنتاج، وغياب الدعم الكبير، فلا نتوقع أن تكون النتيجة مغايرة لشروط قاسية وصعبة، فرضت نفسها على الفنانين والكتّاب والمنتجين والمثقفين. والأهم من ذلك كلّه غياب الاستراتيجية الوطنية والسياسات المستقرة لإنقاذ الفن والثقافة والارتقاء بهما، والانتقال التدريجي نحو ديناميكيات استثمارية، لكن ذلك لن يحدُث من دون تدخل جراحي وعميق من الدولة، للأخذ بيد هذه الشريحة التي تمثّل مصدراً مهماً وحيوياً من مصادر الطاقة والقوة المهدورة وطنياً!

الحديث ذو شجون كثيرة في حالة الفن والثقافة والفنانين والأدباء؛ وإذا كانت الدولة تتحدّث عن شحّ الإمكانات؛ فإنّ إدارة الإمكانات والتوافق على استراتيجية وسياسات كفيل بوضع خريطة طريق، يشارك فيها أهل المصلحة والتخصص. وتكفي الإشارة هنا إلى دول تعاني من أزمات أكبر بكثير من أزمات الأردن المالية، ذات طابع اقتصادي وسياسي وأمني، لكنّها أدركت قيمة الفن رسالة ورواية وسردية، حتى في التغطية على الفشل الذريع والكبير سياسياً واقتصادياً، وسياسات القمع والترهيب التي تستخدمها.

الشرط الثاني العضوي في إنقاذ الفن والثقافة هي الحرية؛ فلا يمكن أن يتحرّك هذا المجال إلا بسقوفٍ عالية من الحرية والتحرّر من الخوف والرقابة الخارجية والداخلية، ومن الجرأة في النقد، ولعلّ أردنيين كثيرين ما يزالون يذكرون مشهد الملك الراحل الحسين بن طلال عندما كان يذهب إلى المسرح، ليشاهد الثنائي هشام يانس (لطف الله به) ونبيل صوالحة، وهم يقدمون أداء تمثيليا لا يوفر حكومات ولا مسؤولين ولا حكاماً من النقد، وكانت ضحكته تسمع في أرجاء المسرح.

المسرح الساخر والدراما والفن التشكيلي والفنون المتنوعة مصادر قوة حقيقية في المجال العام. وعندما تخرج من التأثير يحدث فراغ كبير يملأه العفن والثرثرة والمستويات الهابطة. والأغرب من ذلك أنّنا في مئوية الدولة بدلاً من أن نحتفل به نقيم البكائيات والأحزان والمآتم، بينما يسارع المسؤولون للقيام بأي فعالية ثقافية وفنية سريعة بمناسبة المئوية؛ هي ذاتها عقلية الفزعة والارتجال وغياب الرؤية.