أبو غزالة يكتب : إلّا.. لُغَتِي الأَصِيْلَة
د. طلال ابو غزالة
في غمرة المشاغل اليومية والمواعيد والاهتمامات المشتركة على الصعيدين العربي والعالمي لجهاتٍ عدّة لوافدين ومغادرين، لم أستطع الصمت عن مناسبة عزيزة وعظيمة وهي الاحتفال في يوم اللغة العربية، لغتي الأم، الأصليّة، والأصيلة، التي عرفتُ بها التفوّق، والتفوّه، والنجاح، لغتي التي أحببتها في شعر المتنبّي الذي عرفتُ معه كل معاني الفخر والاعتداد وأدركتُ قيمة “الأنا”.. لغتي التي حفظتُ بفضلها القرآن الكريم بكل مافيه من حكمة، وعِظَة، ومنطق، وقصص، وعِبَر، وبراهين.
لغتي التي علّمتني كيف أفكر وأحتسب وأدبّر، وبفضلها عرفت اللغات الأخرى بعدما فتحت في ذهني كل مسارب الشغف للعلم والمعرفة، فأنا لم أتقن الانكليزية كلغة بديلة عن لغتي العربية، بل كلغةِ احتواء للغتي الأصيلة، وفي اليوم الذي أعلنت فيه الأمم المتّحدة وهو 18 كانون الأول من عام 1974 كان يوم انتصاري كعربي ناطق باللغة العربية، لغة 22 دولة عربية، ولغة 2 مليار مسلم يقرأ القرآن الكريم باللغة العربية، وحرص الأمم المتّحدة على اعتبار اللغة العربية لغة رسمية لموظفيها، في حين أتابع بعض المجتمعات العربية تقهقر لغة الضاد، وإهمالها لدى المدارس ومناهج التعليم التي لم تتطوّر، ولم تعد تجد من يقدّم اللغة العربية كلغة محببة للطلبة العرب، بل اقترنت صورة المدرّس الحالي بصورة الانسان البائس واليائس، بسبب الظروف المادية التي يعانيها في الكثير من الترديات الحاصلة في بعض الدول العربية والتي لم تلملم تماماً بعد ذيول الخراب لما أسموه “الربيع العربي” التي تركت العجز سافراً في أكثر من مجتمع عربي يتماسك عن الانهيار الشامل بصعوبة، وهو يفتقد الحد الأدنى من مقوّمات العيش الكريم.
وإذا ما استجبتُ لتداعيات التفكير في كياننا العربي اليوم وما يعانيه من تدهور فحتما سأدخل متاهة اللاجدوى ولن أخرج منها، وهذا ليس أسلوبي للخوض في الوقت الضائع، لهذا آثرتُ الكتابة عن هذه المناسبة الجليلة “اليوم العالمي للغة العربية “، فالحفاظ على اللغة هو الحفاظ على الكيان والحفاظ على الهوية والحفاظ على الذات والحفاظ على الشخصية، نعم كل هذه الباقة هي في عهدة اللغة الأم، فكيف إذا كانت هذه الأم من أغنى اللغات العالمية التي تزيد على مئات اللغات الأخرى، بمفرداتها وألفاظها وتشكيلاتها اللغوية الابداعية والتي تستوفي كل مافي اللغة من جمالية وعذوبة وقسوة ومتانة وجزالة ودلالات، وإذا اعتبرت نفسي عاشقاً للغة العربية التي أكسبتني أول جائزة عن مسابقةٍ في مصر العربية 1958 عندما كانت في ذاك الحين الدولة المتحدة مع “سوريا” وكان الفوز مبهراً في القصة القصيرة والتي عنونتها في حينه “الصدى اللعين” ونلت جائزة اشبه بثروة 500 جنيه بالنسبة إلى لاجيء في العشرين من عمره فهذا مبلغ يفوق حلمه..
ومن هذا المنطلق ايضا قمت بإطلاق برنامجٍ للطلاقة في اللغة العربية مبنيّاً على معايير عالميّة يستهدف الناطقين وغير الناطقين باللغة العربية من خلال التعليم والتدريب، وينتهي بالتقييم، ووضعته تحت تصرف جامعة الدول العربية لاستخدامه وتحقيق أحد أهداف العقد العربي لمحو الأمية المنبثق عن الجامعة.
إذا اللغة العربية فتحت بغناها أمامي كل آفاق المخيلة للبحث والمتابعة والإطلاع.. وأنا هنا لا أتحدّث عن اللغة العربية كاختصاص، بل أتحدّث عنها كلغةِ حياة، وحب، وحيوية، وحركة، وخصوصية، ولا أخفي غيرتي على اللغة العربية وحسرتي على ما وصلت إليه من جهل وتمادٍ في إهمالها وتفكيكها وتعدّيات، وأنا هنا لا بدّ من ان أطلق صفارة الإنذار بوجوب تنشيط التفاعل باللغة العربية كلغة حضارة وتراث غني جدًا جدًا، وذلك بإيلاء العاملين في حقول اللغة العربية المزيد من الاهتمام والتقدير وتقديم الدعم اللائق بالمثقف العربي والكاتب والأديب والشاعر والناقد، وتجديد دور وزارات الثقافة العربية في العديد من الدول العربية التي دخلت فيه هذه الوزارات في مرحلة السكتة الدماغية، فلم تستطع مواكبة العصر الرقمي، ولم تضف للمثقف العربي أي هامش يذكر، في حين نجد الإمارات تسابق خطاها للتقدّم على جميع الأصعدة وخاصة فيما يتعلّق في تنشئة الجيل وتنمية المعرفة وتطوير المهارات ببرامج مكثّفة على يد أمهر الخبراء بإشراف المختصين من الدوائر الحكومية المحلية، واستقطاب الكفاءات العالية من كل حدبٍ وصوب.