الدكتور مأمون عكروش يكتب : العالم ما بعد كورونا
الدكتور مأمون عكروش
نعم، نحن نشهد عالم جديد لمرحلة ما بعد كورونا بغض النظر عن الأسباب التي أدت الى تمكين هذا الوباء من غزو العالم وإحداث تغيير جوهري في كافة مناحي الحياة بطريقة لم يتوقعها أحد! لقد تغيّر العالم بدون تحريك جندي واحد في أي دولة او أي بٌقعه على وجه المعمورة. توقع الكثيرون حدوث حرب عالمية ثالثة لإعادة التوازن الإستراتيجي العالمي للقوى العظمى وتوزيع الموارد والاسواق والثروات والسيطرة مرّة أخرى على مناطق التقدم والاسواق النامية والمحتملة بإستخدام الادوات التقليدية مثل المؤسسات المالية والنقدية والاتفاقيات طويلة المدى بين الدول والتحكم بمختلف وسائل الانتاج والتقدم العلمي الهائل في مجال الاتصال وتكنولوجيا المعلومات. لذلك، فإن العالم كان بطريقةً او بأخرى ينتظر “الصدمة” سواء أكانت بتخطيط مٌسبق ام لا لتكون هي “المنصّة”، وبلغة السياسة “المبرر الإستراتيجي”، من أجل التدخل وإجراء تغيير جذري شامل وإحداث إستداره إستراتيجية على مستوى الدول والعودة الى الثوابت التي توجّه سلوك كل دولة وفقاً لمصالحها القومية مع الأخذ بنظر الإعتبار المصالح الإستراتيجية المشتركة مع الدول الأخرى. انها صدمة فايروس كورونا (COVID19) في عام 2020، منصّة التغيير التي أحدثت حالة عدم توازن في العالم أجمع! أعتقد ان العلامة الفاصلة في هذا القرن لغاية تاريخه هي إنتشار فايروس كورونا وحالة الرعب العالمي في كافة أصقاع المعمورة وعلى كافة الدول والمستويات. بغض النظر عن وجود “نظرية المؤامرة” (Conspiracy Theory) من عدمها ومن الرابح والخاسر، السؤال الأهم هو: هل أصبحنا نعيش فعلاً في عالم جديد يمثل ما بعد الكورونا؟ من وجهة نظري الشخصية نعم، هناك عالم جديد أصبح يتبلور الى نظام عالمي جديد يشهد فيه العالم تغييرات غير مسبوقة وقد تكون مفاجئة للكثير بما في ذلك العودة الى العديد من النظريات والممارسات التقليدية (Classical Theories) في العديد من مناحي الحياة وخصوصاً السياسية والإقتصادية منها. وعليه، فإن العالم الذي نشهده حالياً يتمحور حول ما يلي: *تجذّر مفهوم الدولة القُطرية الواحدة وفقاً للنظريات السياسية والإقتصادية التقليدية أو على الاقل النيوتقليدية (New-classical) التي تٌعنى بالأمن القومي الشمولي من جميع النواحي بالتشارك مع تحالفات جديدة والإبتعاد عن المنظومة العالمية التي سيطرت على العالم خلال العقدين الماضيين. *تغيّر سلاسل التوريد الإقليمية والعالمية (Regional and International Supply Chains) بشكل جذري وفرضت نفسها كأحد أهم عناصر صياغة إستراتيجيات الأعمال والدول في الوقت الحالي. لقد سيطرت سلاسل التوريد العالمية (Global Supply Chains) على نماذج الأعمال خلال العقدين الماضيين وكانت مصدراً لتحقيق مزايا تنافسية (Competitive Advantages) لكن بعد أزمة كورونا فقد أصبحت هذه السلاسل مصدر أزمة وإرتفاع الأسعار وتأخر في التوريد وغيّرت قواعد الإستراتيجيات التنافسية وطنياً وإقليمياُ ودولياً. السبب الرئيسي في ذلك هو التركيز على سلاسل التوريد الوطنية والاقليمية أكثر من تلك العالمية نظراً لتوجه العديد من الدول ذات الثقل الاقتصادي للتركيز على إقتصادياتها الوطنية وتحالفاتها الإستراتيجية الثنائية أكثر من الاهتمام بسلاسل التوريد العالمية نظراً لسيطرة مفهموم “الأمن القومي التقليدي” على إستراتيجيات العديد الدول. فإرتفاع الاسعار الذي نشهده في الأردن سببه الرئيسي التغيّرات الجوهرية في سلاسل التوريد الاقليمية والعالمية على حدِ سواء. *تجذير مفهوم الأمن القومي الإقتصادي والإجتماعي بالإعتماد على قطاعات الصناعة والإنتاج والزراعة والإكتفاء الذاتي أكثر من التركيز على قطاعات الإقتصاد الخدمية التي كانت محور التنمية في العديد من الدول منذ عقد التسعينات من القرن الماضي (أعلم بأن هناك نظرية الموارد والميزة النسبية لكل دولة ولكن هذا تغيّر بشكل جوهري). *تغيّر شامل في الأنظمة والقوانين والإجراءات الصحية والطبية والدوائية على مستوى الدول والعالم وهذا سيخلق فرص هائلة لعدة قطاعات أعمال وحتى حكومات. *تغيّر جوهري لمفهوم الأمن القومي بحيث يشمل الأنظمة الصحية والوقائية وإعتماد نماذج جديدة للمحاكاة على أرض الواقع وتوقع أزمات لم يتم التفكير بها مسبقاً. *تجذير الدور الإستراتيجي لمراكز إدارة الأزمات والقدرات المتعلقة بها للتنبؤ بالأزمات سواء أكانت تقليدية أم غير تقليدية. *تعزيز دور العلم والعلماء والبحث العلمي المٌتعلق بالإنسان الذي اعتبره العالم ثانوياً لبُرهةً من الزمن لصالح أمور أخرى إهتمت بها العديد من الدول في السابق كالرياضة والفن وتكنولوجيا الاتصالات (من حيث المال والشهرة والإنتشار) والثقافة على سبيل المثال. *تغيّر في ترتيب ومراكز دول العالم الأول، وخصوصاً الصحية منها، التي كانت بمثابة “مُسلّمات” لصالح دول أخرى قد تكون دول ناشئة او نامية. قد يشمل إعادة هيكلة الأنظمة الصحية في العديد من دول العالم وخاصةً تلك التي لم تستيطع التعامل مع أزمة الكورونا وفقاً لمعايير تقدم صحي جديدة يجري العمل على صياغتها. وهذا قد يخلق فرص أعمال ضخمة. *تغيّر ترتيب عدة دول من حيث قوتها الإقتصادية والعلمية والإجتماعية حتى لو كان لها تفوّق عسكري وأمني وتقدم تكنولوجي هائل. *تراجع إقتصادي ضخم على مستوى العالم تأثرث به عدة دول أكثر من أخرى وهناك بوادر لكساد عالمي كبير. *صياغة أنظمة مالية ومصرفية جديدة على المستوى الدولي وسيكون للعملات الرقمية والتعاملات الالكترونية والتكنولوجيا المتقدمة الدور الحاسم فيها. *إرتفاع مديونية العديد من دول العالم، (وخصوصاً الدول النامية والعالم الثالث) نظراً لتخصيص موازنات ضخمة للتعامل مع التداعيات الإقتصادية الكبيرة لتوقف عجلة الإنتاج في العديد القطاعات الإقتصادية والإنتاجية في خلال فترة التعامل مع جائحة كورونا. *ركود كبير في قطاعات السياحة العالمية والاقليمية وشركات الطيران، وحتى على مستوى بعض الدول، نظراً لتوقف عجلة العمل فيها نظراً لحالة الذٌعر من الفايروس. *العودة الى الإنسان “الطبيعي” الذي يهتم بأخيه الإنسان ضمن منظومة قانون الحياة والطبيعة بغض النظر عن التقدم العلمي والتكنولوجي الهائل الذي نشهده هذه الايام. فصدمة فايروس الكورونا هي جرس إنذار للإنسان بأن الحياة المادية والفردية المٌطلقة هي مفاهيم لا تُغني بأي حال من الأحوال بأن يهتم الإنسان بأخيه الإنسان وبأن الله عزّ وجل هو ملاذنا الآمن. *إعادة النظر بشكل جذري في فلسفة وأنظمة وإستراتيجيات وطرائق التعليم المدرسي والجامعي ضمن منظومة تخطيط إستراتيجي شمولي يرتكز على مفهوم إستدامة التعليم في ظل الأزمات سواء أكانت حروب أم أوبئة أم كوارث طبيعية. *إعادة النظر بأساليب العمل لدى العديد من المؤسسات والشركات والحكومات بحيث تكون أنماط عمل هجينة (Hybrid) وموجهه بالنتائج وتحقيق الاهداف أكثر من العمل من خلال التواجد في مكان العمل بشكل مباشر. *التغيّرات المناخية وشٌح المياة ونقص الغذاء أصبحت عوامل هامة جداً لحدوث صراعات ونزاعات إقليمية ودولية وقد تكون منصة إنطلاق حروب في عدة مناطق او حتى حرب عالمية ثالثة. *أصبح للتكنولوجيا المتقدمة وتحديداً تكنولوجيا الذكاء الإصطناعي (Artificial Intelligence-AI) وإنترنت الأشياء (The Internet of Things-IoT) وتحليل البيانات الضخمة (Big Data Analysis) والأمن السيبراني (Cybersecurity) الدور الحاسم في تشكيل العالم الجديد ولا أستبعد إستخدام هذه الطرق المتقدمة في محاكاة العقل البشري وتوجيهه بحلول العام 2030. أقوى مؤشرات العالم الجديد بدأت بتخصيص الصين والولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي ودول أخرى لمئات المليارات وعدة تريلونات “لإنعاش” الإقتصاد العالمي والخروج من حالة توقف الإنتاج القسري الذي يعيشه العالم حالياً. لذلك، الإستعداد لما هو قادم أفضل سيناريو للتكيّف مع العالم الجديد.