بريطانيا تواجه أزمة القيادة
«بريطانيا العظمى» التي مخرت أساطيلها بحار العالم ومحيطاته أكثر من قرنين، تنصّب الحكومات هنا وتسقط أنظمة هناك، ما لها لا تستطيع إنتاج قائد قادر على الإبحار بسفينتها في هذه الحقبة المحفوفة بالمخاطر والمتاعب؟
هذا البلد الذي يمتلك السلاح النووي وأحد الأعضاء الدائمين بمجلس الامن الدولي وله حق النقض (الفيتو) كيف آلت أموره إلى شخصيات عاجزة عن ضمان الاستقرار السياسي لما يسمى «أعرق الديمقراطيات» في العالم؟
وإذا كان شعبها قد اختلطت عليه الأمور فأصبح يتخبط في خياراته حين يذهب إلى صناديق الاقتراع، فأين هم دهاقنة السياسة الذين عرفوا بدهائهم وحنكتهم، وخاضوا أصعب الحروب وأعنفها؟ فأين الزعماء الذين استلموا رئاسة الوزراء في السنوات الأخيرة من الشخصيات الاستعمارية العملاقة مثل ونستون تشرتشل وكليمنت أتلي وهارولد ماكميلان وإدوارد هيث وأمثالهم؟
في الأسبوع الماضي احتفت بريطانيا بذكرى معركة الطرف الأغر التي قادها اللورد نيلسون وانتصر فيها عام 1805على فرنسا، وما أكثر المناسبات التي يتم الاحتفاء بها كمحطات مهمة في تاريخ الامبراطورية التي أفلت شمسها بعد الحرب العالمية الثانية. ولكن بريطانيا لا تحتفي بتسليم فلسطين للمحتلين، وهو الحدث الذي، هو الآخر، ترك لعنته على «الامبراطورية العجوز» ولا بالعدوان الثلاثي على مصر في 1956 الذي شاركت فيه وساهم في إضعافها تدريجيا حتى وصلت إلى ما هي عليه في الوقت الحاضر. أهي النهاية الطبيعية للإمبراطوريات؟ أم أنها المقبرة التي تنتظر من يساوره الشعور بخلوده الأبدي؟ ما يزال الملايين من المتعلمين في أغلب بقاع العالم يتباهون بما يحملونه من شهادات من جامعات أكسفورد وكامبريج ولندن، فكيف يستقيم ذلك مع تلاشي القيادات السياسية الفاعلة التي صاغت القوانين الدولية وخاضت الحروب الكبرى وحكمت الشعوب الأخرى؟ قبل نصف قرن كان سعر الجنيه الاسترليني يعادل أكثر من ثلاثة دولارات، وقبل 15 عاما كان يعادل دولارين، فأصبح اليوم متعادلا تقريبا مع العملة الأمريكية.
وعندما اتخذ القادة البريطانيون من حزب المحافظين الحاكم قرار الانسحاب من الاتحاد الأوروبي كانت عملتهم تتفوق كثيرا على العملة الأوروبية «اليورو» ولعل تلك الحقيقة هي التي منعت بريطانيا من التخلي عن عملتها ورفضت احتضان اليورو الذي أصبح سعره اليوم قريبا من الإسترليني. وما أكثر الذين يعضون اليوم أناملهم أسفا على التصويت للخروج من الاتحاد الأوروبي. فذلك القرار لم ينته هناك، بل أصبح يلاحق بريطانيا ويهددها بتمزيق المملكة المتحدة نفسها، الذي قد يبدأ بانفصال اسكوتلاندا عنها. وفي مقابل إصرار الوزيرة الأولى لأسكوتلاندا، نيكولا ستيرجين، على إجراء استفتاء ثان حول مستقبل تلك المقاطعة، يبدو الوزراء في ويستمنستر أقل إرادة وشأنا ووضوحا. وقد تتبعها المقاطعات الاخرى في سلوك طريق الانفصال عن «المملكة المتحدة». إنها مآلات تتحدى الملك الجديد الذي استلم عرش المملكة بعد وفاة والدته الشهر الماضي. يتوازى مع ذلك أيضا رغبة العديد من الدول المنضوية تحت راية الملكية البريطانية في التحول إلى جمهوريات لا يربطها شيء مع بريطانيا. فعندما ارتقت الملكة الراحلة العرش قبل 70 عاما كان ربع سكان العالم تقريبا يُعتبر من رعايا بريطانيا، وكانت الملكة تحكم 32 دولة. ومع صعود الملك تشارلز الثالث إلى العرش لم يبق سوى 15 منها تحت حكمه. وفي العام الماضي كانت باربيدوس آخر المنسحبين. ومن الناحية الظاهرية ما يزال ملك بريطانيا يتربع على رأس منظمة الكومنولث التي تضم 54 دولة تتعاون في مجالات التجارة والبيئة وحقوق الإنسان. وكان أغلب هذه الدول سابقا تحت الحكم البريطاني.
بريطانيا التي عرفت بتأني سياسييها أمام القرارات الكبرى، كيف استعجلت رئيسة وزرائها الإعلان عن رغبتها بنقل السفارة البريطانية من تل أبيب إلى القدس؟ ولماذا اندفعت لإعلان هويتها الحقيقية أمام عدد من النواب اليهود بقولها: أنا صهيونية كبرى؟ ولماذا الاندفاع لتأكيد حبها لـ «إسرائيل»؟ أهي حصافة سياسية أم هفوة لا تحدث إلا للمتهورين ممن لا يتقنون السياسة والدبلوماسية؟ قبلها أعلن الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب حماسه للكيان الإسرائيلي وقرر نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، المدينة المحتلة التي ما يزال احتلالها يعتبر غير مشروع في القانون الدولي. لقد كان حريا بها أن تتأمل النتيجة التي حققها ترامب بسياساته المتهورة تلك. فبينما فاز الرؤساء الذين سبقوه بفترتين رئاسيتين، فإنه لم يفشل في العودة إلى البيت الأبيض لفترة ثانية فحسب، بل ارتكب أخطاء أصبح بسببها مطلوبا للعدالة بسبب دعوته للتمرد وتشجيع أتباعه على اقتحام البيت الأبيض الذي أدى لمقتل بعض الأشخاص، واعتبر ذلك محاولة انقلاب على ما يعتبره الأمريكيون رمزا لقوتهم ووحدتهم وديمقراطيتهم. والأمل أن يكتشف اللاهثون وراء إعلان انتمائهم للصهيونية ودعمهم الاحتلال أن ذلك الطريق لا يحقق لهم إلا الفشل والخسارة. فكأن الموقف من المدينة المقدسة أصبح حاسما في تقرير مستقبل من يدعم الاحتلال.
وعلى النقيض من ذلك، تراجعت أستراليا الأسبوع الماضي عن قرارها السابق نقل سفارتها إلى القدس. ومن على منبر الأمم المتحدة قالت وزيرة الشؤون الخارجية بيني وونغ أن أستراليا سحبت اعترافها بالقدس عاصمة لـ «إسرائيل» وأن قرار رئيس الوزراء السابق، سكوت موريسون في عام 2018 «أبعد أستراليا عن التناغم مع غالبية المجتمع الدولي» وأثار قلق إندونيسيا المجاورة ذات الأغلبية المسلمة. وأضافت «يؤسفني أن قرار السيد موريسون ممارسة لعبة السياسة أدى إلى تغيير موقف أستراليا، والقلق الذي سببته هذه التحولات لكثير من الناس في المجتمع الأسترالي الذين يهتمون بشدة بهذه القضية». وبرغم ممارسة زعماء الاحتلال دبلوماسية هجومية شرسة لإجبار الدول على الاعتراف بالقدس عاصمة له، ونقل سفاراتها اليها، فليس هناك إلا النزر اليسير من الدول التي فعلت ذلك، برغم ما يبدو من اختراقات دبلوماسية للكيان، سببها في أغلب الاحيان، تراجع الدبلوماسية العربية والدعم الأنكلو-أمريكي للمشروع الصهيوني.
وهكذا أصبح الموقف من المدينة المقدسة معيارا لمواقف الدول، على صعدان شتى: أولها: مدى مبدئية الدول في ما تطرح، وما إذا كانت مبادئها تحظى بأولوية في سياساتها الخارجية. ثانيها: مدى حياد الدول في مواقفها وسياساتها، ومدى استقلالها وقدرتها على رفض إملاءات الآخرين وضغوطهم. ثالثها: عمق الحصافة السياسية لدى حكام الدول، وهي سمة ضرورية لبقاء الحكومات المنتخبة، لأن الشعوب قد تُستغفَل وتُضلل ولكن لديها غالبا بوصلة قيمية وسياسية تمنع انحرافها عن الإنسانية والضمير. رابعها: أن عالم اليوم أصبح رهينة لدى من يملك القوة السياسية، ولكنه رهن مؤقت لا يدوم، لان ذلك مناقض لقيم العدالة والرغبة الفطرية في السلام والأمن والاخوّة. مدينة القدس هذه تستعصي على التطويع، فها هي بعد ثلاثة أرباع القرن ما تزال شامخة وحاضرة بعنفوان في المشهد السياسي الإقليمي والدولي. فحتى الدول التي هرعت للتطبيع مع العدو لم تستطع حرف مسار الأمة. وبرغم رغبة بعض الدول العربية والإسلامية في الانسحاب من مضمار الصراع مع محتلي فلسطين، فإن الضمير العربي والإسلامي والإنساني ما يزال يمثل حائلا دون ذلك. وبرغم أن التحالفات الإقليمية في العقود الأخيرة أصبحت خاضعة لنفوذ بعض الدول العربية المتأرجحة في مواقفها من قضية فلسطين والقدس، إلا أنها لا تستطيع التنكر لقضية المدينة المقدسة. وها هي منظمة التعاون الإسلامي تكرر إشادتها بالدول التي ترفض نقل سفاراتها إلى القدس، وهذا مؤشر لاستعصاء محاولات تهميش القضية أو إخضاعها لقرارات التطبيع التي تتخذها بعض الدول.