أهمية المهرجانات الثقافية للأردن: جرش نموذجًا

الدكتور زيد احمد المحيسن -تُعدّ المهرجانات الثقافية رافعة حضارية ومصدر إشعاع فكري وروحي، تعكس هوية الشعوب وملامح إرثها الإنساني. وفي الأردن، هذا البلد الضارب جذوره في عمق التاريخ، تبرز المهرجانات الثقافية كإحدى أبرز الأدوات التي تعيد وصل الإنسان بذاكرته وتاريخه وهويته. ويأتي مهرجان جرش للثقافة والفنون كأنموذج ناصع لهذه الرسالة المتكاملة، إذ استطاع على مدى عقود أن يتحوّل من مجرّد حدث فني إلى مشروع وطني شامل، يجمع أبعادًا ثقافية وفكرية واجتماعية وسياسية واقتصادية وسياحية في بوتقة واحدة.
جرش ليست فقط مسرحًا رومانيًا شاهق الأعمدة وأقواسًا تروي حكايات الحضارات، بل هي اليوم منبر يتسع لأصوات الشعراء، وألحان العازفين، وخطى الراقصين، وحكايات الكُتّاب، وأحلام الشباب الباحث عن منصة تعبّر عنه. فمن خلال فعالياته المتنوعة، يُحيي المهرجان الذاكرة الثقافية الأردنية والعربية، ويخلق جسرًا من التواصل بين الفنان والمجتمع، وبين الفكر والجمهور، في حوار إنساني يتجاوز الجغرافيا وينتصر للهوية.
المهرجان، بما يحمله من أبعاد اجتماعية، يمنح المجتمع الأردني فسحة من اللقاء والفرح والتنوع، حيث يلتقي الناس على اختلاف مشاربهم، في مشهد تفاعلي يرسّخ روح الانتماء والتسامح. هو حدث لا يجمع فقط العروض على الخشبات، بل يجمع القلوب حول معنى واحد هو الانفتاح والاحتفاء بالجمال.
وفي بُعده السياسي، يقدّم مهرجان جرش رسالة حضارية إلى العالم، تؤكد أن الأردن بلد الأمن والاستقرار، يحتضن الفكر والفن ويمنح الثقافة مكانتها التي تستحق. وهو أداة من أدوات القوة الناعمة التي ترسّخ صورة الدولة المدنية التي تحترم الإبداع وتؤمن بالحرية والتنوع.
أما على الصعيد الاقتصادي، فإن المهرجان يشكّل رافدًا مهمًا للحركة التجارية في جرش والمناطق المجاورة، إذ ينعش الأسواق، ويفتح آفاق العمل أمام الشباب، ويمنح الحرفيين وأصحاب المشاريع الصغيرة فرصًا ذهبية لعرض منتجاتهم. إنه موسم اقتصادي موازٍ لموسم الفن، تدور فيه عجلة التنمية من بوابة الثقافة.
ولم يكن الأثر السياحي غائبًا عن هذا المشهد،
فمهرجان جرش بات مقصِدًا للآلاف من الزوار العرب والأجانب، يأتون ليستمتعوا بعبق التاريخ ممزوجًا بإبداع الحاضر. إنها تجربة سياحية فريدة، ترويها الحجارة وتُغنّيها المسارح، ويعيشها الزائر متكامِلة بين الفن والآثار.
إن مهرجان جرش لا يُقاس فقط بعدد عروضه أو جمهوره، بل بأثره الممتد في الوجدان الوطني، وبدوره في ترسيخ قيمة الثقافة كضرورة مجتمعية لا كماليات. إنه مهرجان يكتبه التاريخ في سطوره المعاصرة، ويعزف من خلاله الأردن سيمفونيته الحضارية المتجددة، مؤكدًا أن الثقافة هي جدار الصمود، ومحرّك التنمية، وروح الوطن التي لا تموت