ما ينبغي أن يُقال لـ «السلطان»
كتب : أمجد ناصر*
لاحظ غيري، كثيرون، أنَّ وسائل التواصل الاجتماعي التي خضعت في عهد أردوغان إلى مدٍّ وجزرٍ من التضييق، وصولاً إلى الحجب، هي نفسها التي أنقذته من الانقلاب! فلم يجد الرئيس التركي، المعتدُّ بنفسه أيّما اعتداد، سوى تطبيق «سكايب» شبه العائلي، وهاتف «أي فون»، يخاطب عبرهما شعبه، بعدما استولى الانقلابيون، كما هي العادة منذ أيام الانقلابات السورية، على مبنى الإذاعة والتلفزيون لبث البيان رقم واحد.
كان السؤال الذي يحدِّد نجاح الانقلاب من فشله هو: أين أردوغان؟ وهذا السؤال كان صعباً على أردوغان نفسه الإجابة عنه. فلكي يجيب، عليه أن يتوفّر على وسيطٍ يقوم بهذه الخدمة، فلم يجد سوى خدمة «سكايب» ليقول إنه حي يرزق وطليق. وهذا بالطبع ما فات الانقلابيين. فـ «عدّة» الانقلاب القديمة لم تعد تنفع في عصرٍ تتخلله وسائل التواصل الاجتماعي، وتخترقه من كل اتجاه. فاتهم أن العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين يختلف كثيراً عن ثمانينيات القرن الماضي، ناهيك عن خمسينياته، وأربعينياته بالنسبة للانقلابات السورية.
بتطبيق «سكايب» شبه العائلي، وموقف سياسي ومهني شجاع من محطة سي إن إن تورك، أفشل أردوغان انقلاب الجيش الذي تبيّن، لاحقاً، أنه كان أكبر مما بدا في اللحظات الأولى، وتنخرط فيه رتب عالية «وليس محرَّم كوسا!». بيد أن لا تطبيق «سكايب» ولا موقف محطة سي سي إن تورك وحدهما كانا كافيين، فهما كانا وسيطاً حاسماً في لحظةٍ تركيةٍ مترنِّحة. الحاسم كان نزول الجماهير إلى الشارع لحماية الديمقراطية. والحاسم، إلى جانب هذا وذاك، موقف الأحزاب السياسية الكبرى في البلاد التي كانت «ولا تزال» على خلافٍ جذري مع أردوغان، وعلى قلق كبيرٍ من سعيه إلى تغيير الدستور، وتنصيب نفسه رئيساً يشبه السلاطين والملوك، وليس الرؤساء العاديين، الفانين. فما أن بدأت تصدر بيانات الأحزاب التركية، بما فيها المقرَّبة من المؤسسة العسكرية، حتى تعزَّز الشك في نجاح الانقلاب. فإذا كان خصوم أردوغان، وحزبه، المختلفون معه على هوية البلاد وصورتها وعلاقتها بمحيطها «أي بكل ما يمثله أردوغان» يرفضون الانقلاب العسكري، ويتمسّكون بالديمقراطية التي لم تأت بهم، منذ عقد ونصف العقد، إلى الحكم، ولم تمكّنهم من هزيمة أردوغان وحزبه، فهذا يعني أن الانقلاب لن ينجح، وإن نجح، إجرائياً، فلن تكون له تغطية سياسية.
سيخرج أردوغان من تجربة الانقلاب الفاشل «ولكن المكلف بشرياً ومادياً ومعنوياً» قوياً. ولكن هذه القوة، إن أُحسن فهم عناصرها، ليست سوبرمانية. أي ليست ثمرة طبيعته الخارقة، وإنما ثمرة مواقف متكاتفة، ربما لم يخطر له أن تكون في عونه، عندما تقع الواقعة. ولكن، ها هي حصلت. فالأحزاب وقفت إلى جانبه باعتباره رئيساً منتخباً من الشعب، مباشرةً، وينتمي إلى حزبٍ يمتلك أغلبيةً في البرلمان، تؤهله لحكم البلاد، ولا ترغب في رؤية العسكر يديرون شؤون البلاد. ليس حبّاً في أردوغان، وقفت أحزاب تركيا الأساسية إلى جانبه. ولكن، من أجل الديمقراطية التي أطلقت طاقات شعوب الجمهورية التركية وجعلت البلاد، المتخلفة اقتصادياً وصناعياً، تخلع عنها نير الديون التي تثقل دول العالم الثالث، وتلحق بالدول المتقدمة اقتصادياً.
والأمر الثاني الذي ربما لم يتوقع أردوغان أن يكون في صفّه هو الإعلام. فعلى الرغم من زجّ صحافيين عديدين، في عهده، في السجن، وتضييقه على الحريات الصحافية «الاستيلاء على صحيفة زمان مثالاً» إلا إن الصحافة «ووسائل الإعلام عموماً» وقفت معه ضد الانقلاب. فلا أحد من قوى المجتمع المدني التركي وهيئاته يريد عودة العسكر، خصوصاً من عاصر عهدهم المخيف. وهذا، أيضاً، لم يدركه مخططو الانقلاب.
تركيا القديمة التي كانت تخضع، بصمت، لوقع البسطار العسكري في الشارع لم تعد موجودة.
وأخيراً.. لا بدَّ من التعريج على تهريجنا حيال الانقلاب التركي. فهناك من زغرد وأطلق الرصاص كأن الانقلاب عرسه الشخصي، وهناك من أُحبط وراح يندب ضياع الديمقراطية، وهو أبعد ما يكون عنها. في تهريجنا العربي، كان الشعب التركي، المعني، أولاً وأخيراً، بما حصل، غائباً.. وهواجسنا، بل أمراضنا، حاضرة.
.......
* كاتب وشاعر أردني مقيم في لندن
..........
- عن «العربي الجديد»