أحاديث العيد !
كل عام وأنتم بخير ، جملة نقولها بمناسبة الأعياد ، لنتبادل بها التعبير عن امنياتنا الطيبة ، لنا ولبلدنا وأمتنا ، فالخير نعمة تعم على الجميع ، وتظل ناقصة إذا كانت فردية ذاتية .
وكما هي عاداتنا الطيبة في كل عيد نلتقي لنتبادل التهاني والأحاديث في حالة من التناقض العجيب بين تلك المشاعر الدينية ولاجتماعية ، وبين حالة الانزعاج والقلق وعدم الرضى التي تطبع أحاديثنا عن الأحوال العامة ، وأحوال أمتنا الممزقة والمدمرة والمظلومة بالاحتلالات الظاهرة والخفية ، وكأننا نستعيد المتنبي وهو يقول "عيد بأية حال عدت يا عيد - بما مضى أم بأمر فيك تجديد " تناقض نستطيع فهمه ونحن نعيش مرحلة غامضة ومعقدة ليس في منطقتنا وحسب ، بل في العالم كله !
ومن الطبيعي أن نستعيد الماضي الذي يبدو متألقا بالمقارنة مع ما نحن فيه ، وغالبا ما يكون مرتبطا بأيام خلت ، ورموز رحلت ، لكنها ظلت باقية في الوجدان لما أظهرته من وطنية حقيقية واضحة وضوح الشمس ، عززت الإحساس بالمجتمع والفخر بالدولة ومصالحها عند الناس ، وتعلقهم العاطفي بالوطن ومحبته والتفاني من أجله .
والوطنية ليس محصورة بمن نسميهيم رموزا وطنية ، بل بكل شخص يحب بلده ويدعم سلطتها ، ويصون مصالحها ، ولكن الرموز الوطنية في بلدنا – وكانوا كثرة في زمن مضى – فهم أولئك الذين ضحوا بفرديتهم لصالح الدولة ، وكانوا أول رواد الحوكمة الذين أرسوا قواعد القانون والنظام والعمل المؤسسي ، ومارسوا النزاهة في أرقى مظاهرها !
ولأن الأحاديث غالبا ما تتركز على الرموز السياسية ، ودائما لا إجماع على السياسيين في أي مكان من العالم ، فإن المعادلة تظلم رموزا كان أثرها عميقا في بناء الدولة ومنهم أولئك الذين وضعوا أساسات صروح اقتصادية وطبية وجامعية وغيرها ، من لا شيء ، واسسوا خطابا ثقافيا وفكريا وتاريخيا عظيما ، والأهم من هؤلاء جميعا أولئك الذين ضحوا بأرواحهم وما زالوا دفاعا عن الوطن وأمنه واستقراره .
وحسنا تفعل الجماعات والمنتديات التي تستذكرهم من وقت لآخر ، ولكن تنمية الروح الوطنية التي نحن في أمس الحاجة إليها تحتاج إلى رؤية حان وقتها لاستحضار الرموز الوطنية ليس من الماضي وحسب ، ولكن من الحاضر أيضا ، من أجل تعميم صورة نقية عن المجتمع والدولة ، وتحقيق نهج تقدمي للتعليم ، والنظم الإعلامية لترسيخ تلك الصورة ، ووضع معايير للمواطن الصالح .
ولعل الاحتفاء بالمتميز ، والتكريم للمتفوق والمخترع والفائز هو في حد ذاته نوع من توسيع مفهوم الرمز الوطني وتجديده ، فذلك ما تفعله دول عظمى ، تعمد أحيانا إلى خلق عدو أو خطر خارجي لتعزيز الانتماء الوطني لدى شعوبها ، وتعظيم روح التضحية في سبيل الأوطان !
أما نحن فيكفي أن نعتز بإنجازاتنا ، والتغني بربوع بلادنا ، والتفاؤل بمستقبل أبائنا والتمسك بالأمل والثقة بالنفس ، فقد كانت بعض أحاديث العيد معتمة حد الاختناق !
www.yacoubnasereddin.com