د. الحسبان يكتب: "الجغرافيون الجدد" إذ يحاولون العبث بالتاريخ وبالخرائط


أنباء الوطن -


منذ أيام عدة جرى تداول إسم جامعة اليرموك وإستطرادا إسم كلية الاثار والانثروبولوجيا في هذه الجامعة من خلال بعض المواقع الاخبارية ومن خلال شبكات التواصل الاجتماعي، تارة من باب التلميح وتارة أخرى من باب التصريح. ويتعلق الامر هنا، باتهامات بالتطبيع الفكري والثقافي والعلمي وبما يمس سمعة كلية الاثار والانثروبولوجيا في جامعة اليرموك وموقعها العلمي والوطني.
والحال، فقد مرت أيام عدة، إنتظرت خلالها قيام أولي الامر في الجامعة ممثلة برئاسة الجامعة أو عبر إحدى أذرعها الاعلامية العديدة, أو من خلال كلية الاثار والانثروبولوجيا ممثلة بعميدها ليقوم بكتابة رد يجلي حقيقة ما جرى في الكلية وبما يدفع الضرر والاذى عن جامعة اليرموك وعن سمعة كلية الاثار والانثربولوجيا التي اليها انتمي. وهو الامر الذي لم يحصل.  فانني وبحكم انتمائي الاداري والعلمي والعاطفي لهذه الكلية في جامعة اليرموك، وأمام الصمت المطبق الذي يلوذ به اولى الامر، وأمام خطورة ما قام به البعض في هذه الكلية، ومن باب وضع الحقيقة أمام كل باحث عنها، فأنني أجد نفسي-وليس من باب التنطع- مضطرا لمهمة توضيح الوقائع كما جرت دفاعا عن جامعة اليرموك، وحرصا على سمعة كلية الاثار والانثربولوجيا فيها.
في الوقائع كما جرت موضوعيا، فقد عقدت وعلى مدى يومين متتاليين مناقشتين لرسالتي ماجستير في الكلية  ولنفس المشرف الذي سبق له أن تولى أعلى المواقع في إدارة الكلية وفي إدارة جامعة اليرموك ولسنين طويلة. وأثناء مناقشة الرسالة الأولى حدث لغط بين أعضاء اللجنة وبين الجمهور بسبب قيام الطالبة باستبدال إسم فلسطين بكلمة إسرائيل على الخريطة المستخدمة في الرسالة وحيث دافع المشرف عن الخريطة محاججا زميلا له قال بعدم علمية وقانونية الخريطة. واثر هذا النقاش خرج بعض الحضور من القاعة احتجاجا على موقف المشرف.
وفي اليوم التالي جرت مناقشة رسالة ماجستير ثانية ولنفس المشرف شاءت الصدفة – أو الخطة- أن يكون عطوفة رئيس الجامعة وهو المختص بعلم الآثار، وإحدى الوزيرات السابقات إضافة الى عميد الكلية يجلسون في المقاعد الأولى بين الجمهور الذي حضر المناقشة. وفي هذه المناقشة طلب أحد أعضاء لجنة المناقشة وبصورة مهذبة من المشرف أن يقوم بتعديل التسميات على الخريطة ليصار إلى وضع اسم فلسطين بدلا من إسرائيل. ولكن دعوة عضو لجنة المناقشة جوبهت بإصرار غير عادي من المشرف على التسمية محاولا إقحام معالي الوزيرة في أمور المناقشة. وفي المحصلة أن عضو لجنة المناقشة نجح بتقديم سند علمي وتاريخي ضد الخريطة وضد التسمية المعتمدة، فما كان من الجمهور إلا أن قام بالتصفيق تحية لدفاع عضو لجنة المناقشة. ووجد المشرف نفسه معزولا داخل القاعة.
ما جرى هو بالتأكيد معيب وخطير، وكنا نتمنى لو أنه ما جرى. أما وقد حصل هذا التجاوز، فان الواجب يقتضي منا بعد توضيح الذي جرى، إن نساعد في استخلاص العبر والدروس مما جرى ليس رغبة في تضخيم حدث عابر وهامشي، وليس من باب النكايات والكيديات، ولكن من باب درء المفساد والمخاطر التي يشكلها ما جرى ليس على الجامعات وطلبتها، فحسب بل على الوطن ومصير الامة، وخصوصا في ظل هجمة اسرائيلية على تاريخنا في فلسطين وفي تلك البلاد التي يسمونها "من النيل الى الفرات".
ولأن الدولة الحديثة إن هي إلا خليط معقد من المؤسسات التي هي أشبه بالمصانع العملاقة حيث بعض المصانع تنتج السلع والخدمات لتبني اقتصاد الأمة، وحيث الجامعات ومراكز البحث إن هي إلا مصانع كبرى لإنتاج المعارف والعلوم بنفس القدر الذي تمثل فيه مصانع أخلاقية وروحية وقيمية هدفها إنتاج كائنات معرفية وأخلاقية واستطرادا مواطنين وكائنات دولة. فان الذي جرى في جامعة اليرموك يكشف عن حجم المرض الذي أصابنا وأصاب البعض في جامعاتنا.
ولنكتشف فداحة الذي جرى، فعلينا أن نتذكر أن التطاول على التاريخ والجغرافيا جرى داخل كلية للآثار، وهي الكلية التي نشأت في الأساس، وأنفق عليها دافع الضرائب الأردني عشرات الملايين كي ينتج العاملون فيها بحوثا ودراسات علمية عن تاريخ الاردن والمنطقة، وبما ينتج في النهاية رواية وخطابا علميين يكرسان الحق التاريخي لاهل الارض في ارضهم في مواجهة كيان صهيوني تقوم كل شرعيته على استخدام علوم التاريخ والاثار لينتج رواية مزيفة تشرعن لكيانه الغاصب. فان صدر العبث بالخرائط عن مختص بالكيمياء فلا يكون حجم الخطيئة الاخلاقية والعلمية والوطنية المرتكبة يعادل صدورها عن مختص عامل في كلية تختص بالاثار والتاريخ. وعليه فلكم أن تتخيلوا حجم الخطيئة المرتكبة، كما خطيئة السكوت عنها. ففي الذي جرى كانت خسارتنا مضاعفة، فالذي قام بنزع شرعية اسم فلسطين عن الخريطة، قام أيضا بمنح الشرعية لعدو الاردن وفلسطين.
ولعل ما يزيد شعورنا بالغضب والمهانة، انه وفي الوقت الذي يقوم من سبق لجامعة اليرموك بابتعاثه بشرعنة خرائط عدو الأمة، ترتفع الأصوات في كل أرجاء الارض نازعة الشرعية عن هذا الكيان الصهيوني. فقبل ايام تم حشد مئات الاف الاصوات من الفرنسيين الرافضين لتنظيم مهرجان الأغنية الأوروبية في الكيان الصهيوني، وحتى في الولايات المتحدة الأمريكية تعلن عشرات الجامعات ومنذ سنين عن مقاطعتها لاي تعاون مع الكيان الصهيوني. أما في أمريكا اللاتينية فان العداء لهذا الكيان يصل حد سحب السفراء وقطع العلاقات مع هذا الكيان. وفي الكيان نفسه، تتزايد يوما بعد يوم "حركة المؤرخين الاسرئيليين الجدد" ممن يطعنون بالرواية التاريخية  الاسرائيلية التي تشرعن لقيام الكيان الصهيوني.
وبالرغم من هذه الخطيئة فلطالما سجلت كلية الاثار والانثربولوجيا أنصع الصفحات في العمل العلمي ويما يخدم الاردن وفلسطين وبلاد العرب، فالكلية قامت بمئات الحفريات التي كشفت عن تراث الأردن وحضارته العظيمة، كما استطاعت الكلية أن تبنى ذخيرة علمية من الكوادر البشرية المختصة في مجال الآثار والتراث، بل وأسجل من خلال عملي كعميد سابق لهذه الكلية، ان قام العديد من الزملاء برفض التعاون مع جهات غربية مضحين بمنافع مادية وأكاديمية يمكن أن يجنونها في حال تعاونهم، ولكنهم اثروا رفض التعاون لشبهات كانت لديهم حول نوايا وارتباطات هذه الجهات الغربية. وما زلت استذكر الموقف النبيل لإحدى الزميلات في الكلية التي رفضت وفي مناسبتين اثنتين عروض التعاون العلمي والتمويلي من جهات ألمانية وأمريكية لان شكوكا ساورتها حول هوية وارتباطات الجهات التي تقدم العروض لها.
وياتي منبع الخطر في التعاون مع هذه الجهات من الطبيعة الخاصة لعلم الاثار فهو علم تلعب الذات فيه دورا كبيرا في التحليل والتفسير، إذ أنه علم ينتمي إلى العلوم الإنسانية لا الطبيعية، مما يجعل الفصل بين الذات والموضوع فيه أمرا صعب التحقيق. وهو ما يجعل الكتابة عن الآثار تختلط كثيرا بالايديولوجيا خصوصا اذا كانت هناك مشاريع لدول وجهات تستفيد من هذه القراءات الإيديولوجية للماضي والآثار. ولعل التذكير بالتفسيرات التوراتية للآثار يفيدنا كثيرا في فهم خطورة العمل الأثري في الاردن الذي يشكل نافذة خطيرة ينفذ منها الإسرائيلي وأصدقائه في الخارج والداخل.
لعل ما جرى في جامعة اليرموك يقرع جرس الإنذار لدى أعلى المرجعيات في الدولة الأردنية لتفتح العين على خطورة ما يجري في قطاع الآثار والتراث الأردنيين واستطرادا بعض ما يجري في كليات الاثار في بعض الجامعات الأردنية، وحيث تسود بعض الممارسات المقصودة وغير المقصودة التي تلحق أذى كبيرا بالآثار والتاريخ الأردنيين وحيث يستمريء البعض لعبة قديمة جديدة تقضي بالتعاون مع جهات مشبوهة مفضلا مصالحه الخاصة المتمثلة في كسب بعض المال او بكتابة اسمه باعتباره باحثا مشاركا على بحث علمي قام باحث غربي بكتابته بالكامل، وهو ما يعني أن الغرب هو الذي يحفر، وهو الذي يكتب، وهو الذي ينتج الرواية والخطاب حول ما يتم العثور عليه أثناء الحفريات. وفي النهاية تكون المأساة قد تحققت، فتاريخنا لا نكتبه نحن بل يكتبه أعداؤنا.
ما جرى في جامعة اليرموك أضعه بين يدي كل الشرفاء في الدولة الاردنية سواء كانوا عاملين في أجهزة رقابية أو تشريعية أو تنفيذية. فما جرى في "اليرموك" يمثل فرصة لوضع ملف الاثار والتراث في الاردن أمام صناع القرار في كل هذه الاجهزة ليصار الى إدارة قطاع الاثار والتراث بواسطة "عقل الدولة" وبما يخدم مصالح الدولة والامة، ولكي لا يبقى قطاع الاثار والتراث في الاردن نهبا للعمل الفردي والمرتجل سواء انبثق عن نوايا طيبة أو شريرة، وكي لا يبقى هذا القطاع نهبا لكل الاصابع التوراتية التي تسرق وتدمر وتعبث بهذا التراث.