"البريد في خدمة كوكبنا"
رئيس مجلس مفوضي
هيئة تنظيم قطاع الاتصالات
المهندس بسّام فاضل السرحان
يحتفلُ العالمُ باليوم العالميّ للبريد في التاسع من أكتوبر من كلّ عام، إذ يمثّل هذا اليوم مناسبةً سنويةً للاحتفاء بقطاع البريد، واستحضار تاريخه العريق، وإنجازاته المهمّة، ودوره الرياديّ في تعزيز العلاقات الإنسانية والتقدّم الحضاري، وتسهيل التواصل بين البشر على اختلاف قاراتهم وبلدانهم. كما يمثّل فرصةً لتعزيز الوعي بأهميّة قطاع البريد، وما قدمه ويقدمه من خدمات جليلة للإنسانية منذ أن أدرك البشر أهميّة تفعيل الخدمات البريدية تلبيةً لحاجتهم للتواصل في مختلف المجالات الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية وغيرها.
وقد أعلن الاتحادُ البريديّ العالميّ أن احتفالية هذا العام ستكون تحت شعار" البريد في خدمة كوكبنا" وهو شعار يوضّح قيمة وأهميّة الخدمات التي يقدّمها قطاعُ البريد للكوكب، والفلسفةُ الأصيلة التي تأسست عليها خدمات البريد القائمة على تعزيز العلاقات الإنسانية، وتيسير سبل التواصل بين سكّان الكوكب، وتسهيل حصولهم على الخدمات، بما يُسهم في تحقيق الغاية الأساسيّة من إنشاء هذا القطاع، وهي تحسين حياة الناس، ورفع جودة الخدمات التي يتلقونها. غير أنّ هذا الشعار يكشفُ في الوقت نفسه حجمَ التحديات الجمّة التي يعيشها كوكبُنا في ظلّ المتغيّرات الراهنة، فالتقدّم التكنولوجيّ يمضي قُدماً حاملاً معه كثيراً من المخاطر التي باتت تُشكّل تهديداً حقيقياً للبيئة والمناخ، وهو ما يضع على عاتق الجهات المختّصة في دول العالم، والاتحادات الدولية، ومن بينهما الجهات المسؤولية عن تنظيم الخدمات البريدية، مسؤولية البحث عن سُبلٍ للحدّ من حجم الضرر الذي يقع على كوكب الأرض جرّاء تزايد النشاطات البشرية.
وفي هذا السياق تشيرُ الإحصاءات، وفقاً لتقديرات الاتحاد البريدي العالمي لعام 2017، إلى أنّ الأساطيل الضخمة من وسائط النقل التي يستخدمها قطاع البريد تندرج ضمن أكبر مصادر التلوّث على وجه الأرض، فهناك أكثر من مليون ونصف عربة بريدية تسير يومياً في مختلف دول العالم، والمئات من الطائرات المحمّلة بالطرود البريدية التي تنتقل بين مختلف الدول ذهاباً وإياباً، ما يجعل قطاع البريد مسؤولاً عن نحو 62 مليون طن من غازات الدفئية المنبعثة سنوياً.
ومع النمو السريع في التجارة الإلكترونية، لا سيّما بعد جائحة كورونا التي أدت إلى تضخّم الاعتماد على خدمات التوصيل، ونشوء نماذج جديدة لتقديم الخدمات البريدية، ومعها عدد كبير من الشركات حديثة النشوء التي قدّمت خدماتها اللوجستية المتخصصة لتجّار التجزئة وعملائهم، فإنّ الأرقام المشار إليها سابقاً من المتوقّع أن تكون قد تضاعفت، كما تشير التقارير الدولية إلى أن مليارات القطع من السلع التي يتم تسليمها للمستهلكين سنويا تخلّف أطنانا من المواد البلاستيكية وصناديق الورق المقوى التي تحتوي على مواد تسبب أضرارا بالغة بالبيئة ما لم يتم التعامل معها بشكل صحيح.
وهذه الأرقام توضّح حجم الجهد الذي يبذله العاملون في هذا القطاع الحيويّ من جهة، وتجعلنا في الجهة المقابلة نقف جميعاً أمام مسؤوليةٍ أخلاقية للبحث عن حلولٍ جادّة ومؤثّرة للحدّ من حجم الضرر الواقع على البيئة والمناخ نتيجة هذا النشاط الهامّ والضروري لأكبر قطاع للخدمات اللوجستية حول العالم الذي يمثّل ضرورة مُلحّة لا سيّما إذا عرفنا أنّ أثره على البيئة والمناخ أقل كثيراً - وفقاً للتقارير والدراسات - من عمليات التسوّق التقليدية التي تتطّلب قيام العملاء باستخدام وسائط النقل لشراء احتياجاتهم.
إن كوكبنا مليئ بالموارد، وفي الوقت الذي تُستنزف فيه موارده ، فإنّ عدد السكّان يتزايد بشكل مطّرد، يترافق معه تضخّم الحاجة لاستخدام وسائل النقل، وإنشاء المصانع، وتضاعف حجم المخلّفات الناتجة عن النشاطات البشرية وغيرها، كلها تحمل في جانبها السلبي مخاطر جمّة وتهديدات حقيقية، لا سيّما بالنسبة للأجيال القادمة التي ستجدُ نفسها أمامَ ظروف مناخية وبيئية خطيرة ما لم نعمل جميعاً، وفق نهجٍ تشاركيّ على المستويات المحلّية والإقليمية والعالمية، لإيجاد حلول عاجلةٍ وجادّة للحدّ من حجم الضرر الواقع على البيئة والمناخ، وتعزيز الوعي بأهميّة المحافظة عليهما.
وفي هذا الإطار فإنّ من مسؤولية قطاع البريد أن يبادر إلى البحث عن الحلول الممكنة للحدّ قدر الإمكان من البصمة الكربونية لهذا القطاع، وتحفيز التحوّل نحو استخدام المنتجات الصديقة للبيئة في كلّ عملياته، فضلاً عن القيام بدورٍ توعويّ سواء على مستوى تعزيز الوعي العام بآثار التلوّث البيئي والتغيّر المناخي، أم بتشجيع البحث عن حلول عامّة ومستدامة لمشاكل البيئة والمناخ، ومن ذلك على سبيل المثال وضع القوانين المنظّمة للقطاع بما فيها المواصفات الخاصة بوسائل النقل، وتحفيز العاملين في القطاع على الاعتماد على وسائل النقل الأقل تلويثا للبيئة كالسيارات الكهربائية، أو الدراجات، والعمل المستمر بالشراكة مع الجهات المعنية على رفع جودة الخرائط والقدرة على الوصول للعملاء بأسرع طرق ممكنة للحد من التلوث وتقليل تكلفة النقل، وغيرها من حلول يمكن أن تتبلور على نحو أكثر وضوحاً عن طريق العمل المؤسسي التشاركي الذي تتعاون فيه كلّ الجهات المعنية لاستكشاف دور البريد في تسريع الانتقال نحو الاقتصاد الدائري، والخروج بتوصيات وأفكار عملية قابلة للتطبيق، بما يعكس توجّه القطاع للمساهمة في دعم التوجّهات نحو بيئة أكثر أماناً للأجيال الحالية والمستقبلية.