حـارتـنـا‭ ‬ضـيـقـة‭ .. !‬


أنباء الوطن -

 

كتب‭ : ‬يوسف‭ ‬الحلو

كانت‭ ‬أكثر‭ ‬الأصوات‭ ‬إزعاجا‭ ‬قديما‭ ‬ولمن‭ ‬عاصر‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬دور‭ ‬السينما‭ ‬العتيقة‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬صوت‭ ‬‮«‬بكرة‮»‬‭ ‬دُولاب‭ ‬العرض،‭ ‬يصدر‭ ‬صريراً‭ ‬لدرجة‭ ‬أن‭ ‬صوتها‭ ‬كان‭ ‬يطغى‭ ‬أحيانا‭ ‬على‭ ‬أكثر‭ ‬المشاهد‭ ‬جذبا‭ ‬وتشويقا،‭ ‬قسوة‭ ‬كانت‭ ‬أم‭ ‬عشقاً‭, ‬فيبقى‭ ‬صوت‭ ‬البكرات‭ ‬يقرع‭ ‬في‭ ‬طبلة‭ ‬الأذن‭ ‬حتى‭ ‬ينتهي‭ ‬المشهد‭ ‬إما‭ ‬بقبلة‭ ‬وإما‭ .. ‬بطعنة‭ ! ‬و‭ ‬كان‭ ‬إختفاء‭ ‬الصوت‭ ‬دائما‭ ‬مرتبطا‭ ‬بكلمة‭ ‬النهاية‭.‬

منذ‭ ‬فترة‭ ‬والصوت‭ ‬نفسه‭ ‬يعود‭ ‬ليقرع‭ ‬ولكنه‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬تجرأ‭ ‬فلم‭ ‬يعد‭ ‬يختبيء‭ ‬في‭ ‬جوف‭ ‬الأذن‭ ‬كمُطارد‭ ‬اختبىء‭ ‬في‭ ‬مغارة؛‭ ‬بل‭ ‬تمرد‭ ‬وأصبح‭ ‬يقرع‭ ‬بصريره‭ ‬أمام‭ ‬الأعين‭ ‬بكل‭ ‬وقاحة‭, ‬تدور‭ ‬بكرته‭ ‬على‭ ‬مشاهد‭ ‬متعددة‭ ‬الألوان،‭ ‬فقد‭ ‬انقرضت‭ ‬قطبية‭ ‬اللونين‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬طغى‭ ‬زمن‭ ‬العولمة‭ ‬والحرمنة‭ ‬على‭ ‬حياتنا‭ ‬فتعددت‭ ‬مشاهد‭ ‬بطولات‭ ‬الوهم‭ ‬الكاذب‭,  ‬أجاد‭ ‬أصحابها‭ ‬تمثيل‭ ‬كل‭ ‬المشاهد‭ ‬إلا‭ ‬مشهد‭ ‬الوفاء‭ ‬للحقيقة‭ ..‬

المشهد‭ ‬الأول

يجلس‭ ‬على‭ ‬مكتبه‭ ‬الفخم‭ ‬وفوق‭ ‬رأسه‭ ‬علقت‭ ‬يافطة‭ ‬كبيرة‭ ‬بعرض‭ ‬الحائط‭ ‬كتب‭ ‬عليها‭ ‬بالخط‭ ‬الرقعي‭ ‬‮«‬رأس‭ ‬الحكمة‭ ‬مخافة‭ ‬الله‮»‬،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كان‭ ‬هو‭ ‬نفسه‭ ‬السبب‭ ‬بقطع‭ ‬الأرزاق‭ ‬وإيصال‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬طاله‭ ‬وباءه‭ ‬الى‭ ‬ترقيع‭ ‬ثوب‭ ‬معيشتهم‭ ‬برقع‭ ‬الفقر‭ ‬والجوع‭ ‬غصبا‭ ‬وقهرا‭ ‬حتى‭ ‬تعرى‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬ثوب‭ ‬إنسانيته‭ ‬ومسؤوليته‭.‬

المشهد‭ ‬الثاني‭ ‬

يدخل‭ ‬على‭ ‬‮«‬الفيلا‮»‬‭ ‬التي‭ ‬بناها‭ ‬حديثا‭ ‬بعد‭ ‬ان‭ ‬استلم‭ ‬منصبه‭ ‬بشهور‭ ‬وقد‭ ‬كتب‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬مداخل‭ ‬بواباتها‭ ‬الفخمة‭ ‬بالخط‭ ‬النسخي‭ ‬‮«‬هذا‭ ‬من‭ ‬فضل‭ ‬ربي‮»‬،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تجرد‭ ‬من‭ ‬مخافة‭ ‬الله‭ ‬ونسخ‭ ‬ورسخ‭ ‬بقذارته‭ ‬أصولا‭ ‬وأبوابا‭ ‬للسرقة‭ ‬والنصب‭ ‬والإحتيال‭, ‬فصار‭ ‬كمسخٍ‭ ‬تقشعر‭ ‬منه‭ ‬كلمات‭ ‬الطهر،‭ ‬فتصرخ‭ ‬في‭ ‬وجهه‭ ‬محذرة‭ ‬له‭ .. ‬‮«‬لا‭ ‬يمسه‭ ‬إلا‭ ‬المطهرون‮»‬‭ !.‬

المشهد‭ ‬الثالث

في‭ ‬لقاء‭ ‬عام‭ ‬يقف‭ ‬خطيبا‭, ‬محاضرا‭, ‬محللا‭ ‬في‭ ‬النزاهة‭ ‬والسياسة‭ ‬والإقتصاد‭ ‬والشرف،‭ ‬وقد‭ ‬علقت‭ ‬فوق‭ ‬رأسه‭ ‬يافطة‭ ‬بعنوان‭ ‬اللقاء‭ ‬كتب‭ ‬عليها‭ ‬‮«‬لو‭ ‬دامت‭ ‬لغيرك‭ ‬ما‭ ‬وصلت‭ ‬إلك‮»‬،‭ ‬فيعربد‭ ‬ويزبد‭ ‬ويتشنج‭ ‬أصبع‭ ‬يده‭ ‬من‭ ‬كثرة‭ ‬ما‭ ‬أقسم‭ ‬زورا‭ ‬وكذبا،‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬دق‭ ‬قفاه‭ ‬بمقعده‭ ‬فلما‭ ‬يأسوا‭ ‬منه‭ ‬رموه‭ ‬والمقعد‭ ‬خارج‭ ‬حدود‭ ‬الوطن‭.‬

المشهد‭ ‬الرابع‭ ‬

يجتمع‭ ‬فيه‭ ‬مسوخ‭ ‬الوهم‭ ‬والخسة‭ ‬في‭ ‬المشاهد‭ ‬الثلاثة‭ ‬السابقة‭ ‬مع‭ ‬يافطاتهم‭ ‬ومكاتبهم‭ ‬وفللهم‭ ‬ومنابرهم‭ ‬وجها‭ ‬لوجه‭ ‬أمام‭ ‬ذاكرة‭ ‬وطن،‭  ‬ترفع‭ ‬لهم‭ ‬يافطة‭ ‬حقيقتهم،‭ ‬والتي‭ ‬سنبقى‭ ‬نحملها‭ ‬مع‭ ‬الوطن‭ ‬ما‭ ‬دام‭ ‬النفس‭ ‬فينا،‭ ‬ليقرأوها‭ ‬أصحاب‭ ‬مشاهد‭ ‬من‭ ‬طعن‭ ‬الوطن‭ ‬في‭ ‬خاصرته‭ ‬وقد‭ ‬كُتب‭ ‬عليها‭ ‬بخط‭ ‬عريض‭ ‬بمداد‭ ‬تراب‭ ‬الوطن‭ .. ‬‮«‬‭ ‬إستحوا‭ .. ‬ترى‭ ‬حارتنا‭ ‬ضيقة‮»‬‭!.‬

نعم؛‭ ‬حارتنا‭ ‬ضيقة‭ ‬أيها‭ ‬التافهون‭ ‬وأنفاسنا‭ ‬ضاقت‭ ‬بكم‭ ‬وكذلك‭ ‬صارت‭ ‬هي‭ ‬أحلامنا‭ ‬بسببكم‭, ‬فلا‭ ‬يفكرن‭ ‬أحدا‭ ‬منكم‭ ‬أنه‭ ‬روبن‭ ‬هود‭ ‬أو‭ ‬أنه‭ ‬عرّاب‭ ‬فانوس‭ ‬علاء‭ ‬الدين،‭ ‬أو‭ ‬أنه‭ ‬قد‭ ‬ورث‭ ‬عصا‭ ‬موسى‭ ‬ليشق‭ ‬بها‭ ‬على‭ ‬قلوبنا،‭ ‬فنقع‭ ‬مغشيا‭ ‬علينا‭ ‬من‭ ‬جمال‭ ‬إبتسامته‭ ‬أو‭ ‬جزالة‭ ‬فكره‭ ‬وعظيم‭ ‬عطاياه‭.‬

فالحارة‭ ‬أضيق‭ ‬مما‭ ‬تتخيلون‭, ‬وذاكرة‭ ‬الوطن‭ ‬وذاكرتنا‭ ‬لن‭ ‬ترحم‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬تاجر‭ ‬وخان‭ ‬وباع‭.. ‬أفلا‭ ‬تعقلون‭!‬

‭..................‬

يوسف‭ ‬الحلو‭ ‬–‭ ‬13‭ ‬أيار‭ ‬2016