دور‭ ‬الوسطية‭ ‬في‭ ‬صيانة‭ ‬الاستقلال‭ ‬وحفظه


أنباء الوطن -

 

بسم‭ ‬الله‭ ‬الرحمن‭ ‬الرحيم

خلق‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭ ‬الإنسان‭ ‬وأمده‭ ‬بخصائص‭ ‬تمكنه‭ ‬من‭ ‬القيام‭ ‬بوظيفة‭ ‬الاستخلاف‭ ‬في‭ ‬الأرض‭ ‬؛‭ ‬ومن‭ ‬خصائص‭ ‬الإنسان‭ ‬السوي‭ ‬إعتزازه‭ ‬بالانتماء‭ ‬واحتفاؤه‭ ‬بالكرامة‭ ‬والحرية؛‭ ‬لأن‭ ‬الإنتماء‭ ‬عنوان‭ ‬الهوية‭ ‬وعلامة‭ ‬التميز،و»الإنسان‭ ‬اجتماعي‭ ‬بطبعه،‭ ‬ومدني‭ ‬بفِطرته،‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يعيش‭ ‬منعزلًا‭ ‬دون‭ ‬الإحساس‭ ‬بالانتماء‭ ‬إلى‭ ‬كِيان‭ ‬أكبر‭ ‬منه؛‭ ‬سواء‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬الكيان‭ ‬هو‭ ‬أسرته‭ ‬الصغيرة،‭ ‬أو‭ ‬قبيلته،‭ ‬أو‭ ‬وطنه‭ ‬ودولته،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬العالم‭ ‬الكبير‭ ‬الذي‭ ‬يعيش‭ ‬فيه؛‭ ‬لأنه‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬هذه‭ ‬الانتماءات‭ ‬أو‭ ‬بعضها‭ ‬يحقق‭ ‬الإنسان‭ ‬إنسانيته،‭ ‬ويتحقق‭ ‬وجوديًّا‭ ‬في‭ ‬مجتمعه؛‭ ‬لذلك‭ ‬يعد‭ ‬مفهوم‭ ‬الانتماء‭ ‬من‭ ‬المفاهيم‭ ‬المركزية‭ ‬التي‭ ‬تحدد‭ ‬طبيعة‭ ‬علاقة‭ ‬الفرد‭ ‬بالجماعة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬زمان‭ ‬ومكان،‭ ‬ويقابله‭ ‬على‭ ‬الضد‭ ‬تمامًا‭ ‬مفهوم‭ ‬الاغتراب؛‭ ‬الذي‭ ‬يعني‭ ‬الابتعاد‭ ‬النفسي‭ ‬للفرد‭ ‬عن‭ ‬ذاته‭ ‬وعن‭ ‬جماعته‮»‬‭[‬1‭] ‬وينبطق‭ ‬هذا‭ ‬التوصيف‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬الناس‭ ‬وينسحب‭ ‬على‭ ‬الأمم؛‭ ‬فالأمة‭ ‬التي‭ ‬لاتعتز‭ ‬بهويتها‭ ‬حكمت‭ ‬على‭ ‬نفسها‭ ‬بالموات،‭ ‬والأمم‭ ‬التي‭ ‬تقدمت‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬حافظت‭ ‬على‭ ‬انتمائها،‭ ‬واعتزت‭ ‬بهويتها،‭ ‬وافتخرت‭ ‬بأصلها،‭ ‬وصانت‭ ‬ثقافتها؛‭ ‬يقول‭ ‬الخليفة‭ ‬الراشد‭ ‬عمر‭ ‬بن‭ ‬الخطاب‭ ‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنه؛‮»‬‭ ‬كنا‭ ‬أذلاء‭ ‬فأعزنا‭ ‬الله‭ ‬بالإسلام‭ ‬فإذا‭ ‬طلبنا‭ ‬العزة‭ ‬في‭ ‬غيره‭ ‬أذلنا‭ ‬الله‮»‬

والمتأملَ‭ ‬في‭ ‬القرآن‭ ‬ِالكريم‭ ‬يُدركُ‭ ‬اهتمامَ‭ ‬القرآن‭ ‬ببناء‭ ‬شخصية‭ ‬الفرد‭ ‬المسلم‭ ‬بناءً‭ ‬قويا‭ ‬ولذلك‭ ‬نجد‭ ‬أنَّ‭ ‬الإسلامَ‭ ‬قد‭ ‬أحاط‭ ‬الطفل‭ ‬منذ‭ ‬أنْ‭ ‬كان‭ ‬حَملا‭ ‬في‭ ‬بطن‭ ‬أمه‭ ‬بسياجٍ‭ ‬من‭ ‬العزة‭ ‬متين؛‭ ‬فلا‭ ‬يمارَسُ‭ ‬ضد‭ ‬أمه‭ ‬اي‭ ‬عنف،‭ ‬أو‭ ‬أيَّ‭ ‬شكل‭ ‬من‭ ‬الإهانة‭ ‬كالضرب‭ ‬والشتم‭ ‬مثلا،‭ ‬لكيلا‭ ‬يصبحَ‭ ‬ذليلا‭ ‬في‭ ‬يومٍ‭ ‬ما،‭ ‬لأنه‭ ‬من‭ ‬المعلوم‭ ‬أنَّ‭ ‬مثلَ‭ ‬هذه‭ ‬العواملِ‭ ‬تؤثرُ‭ ‬على‭ ‬أعصابِ‭ ‬الأمِّ‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المدة‭ ‬من‭ ‬استقرارٍ‭ ‬واضطراب،‭ ‬وأمن‭ ‬وخوفٍ‭ ‬وسرور‭ ‬وحُزن،‭ ‬وتؤثرُ‭ ‬على‭ ‬حملها‭ ‬تبَعا‭ ‬لذلك‭.‬

وكذلك‭ ‬إذا‭ ‬أصبحَ‭ ‬يافعا‭ ‬لا‭ ‬يُمارس‭ ‬ضده‭ ‬أيُّ‭ ‬مظهر‭ ‬منْ‭ ‬مظاهر‭ ‬الذلِّ،‭ ‬بل‭ ‬على‭ ‬الأب‭ ‬أنْ‭ ‬يربيَه‭ ‬على‭ ‬الشجاعة‭ ‬والكرم‭ ‬والعبادات‭ ‬والأخلاق‭ ‬الفاضلة‭ ‬التي‭ ‬منْ‭ ‬شأنها‭ ‬أنْ‭ ‬تقودَه‭ ‬إلى‭ ‬العزة،‭ ‬ولا‭ ‬يجوز‭ ‬ضربه‭ ‬أو‭ ‬شتمه‭ ‬أو‭ ‬الاستهزاء‭ ‬به‭ ‬أو‭ ‬تربيتِه‭ ‬على‭ ‬الجُبن‭ ‬والبُخل‭ ‬وتركِ‭ ‬الطاعات‭ ‬والأخلاق‭ ‬الذميمة‭ ‬التي‭ ‬مِن‭ ‬شأنها‭ ‬أنْ‭ ‬تقودَه‭ ‬إلى‭ ‬المذلة‭ ‬والهوان‭.[‬2‭]‬

هذا‭ ‬المنهج‭ ‬التربوي‭ ‬يعد‭ ‬الإنسان‭ ‬ليعيش‭ ‬حرا‭ ‬كريما‭ ‬أبيا‭ ‬يرفض‭ ‬التبعية‭ ‬والاذلال‭ ‬والخنوع؛‭ ‬مما‭ ‬ينمي‭ ‬فيه‭ ‬ملكة‭ ‬الاستقلال‭ ‬برأيه‭ ‬وفكره‭ ‬ومواقفه‭ ‬وبالتالي‭ ‬يعتز‭ ‬بهويته‭ ‬التي‭ ‬تميز‭ ‬شخصيته؛‭ ‬هذا‭ ‬التأسيس‭ ‬التربوي‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يعزز‭ ‬الانتماء‭ ‬للامة‭ ‬والولاء‭ ‬للوطن‭ ‬والتحرر‭ ‬من‭ ‬التبعية‭ ‬بكل‭ ‬أشكالها‭. ‬ولايعني‭ ‬هذا‭ ‬الوقوع‭ ‬في‭ ‬الإنعزال‭ ‬والانغلاق‭ ‬والتحجر‭ ‬والانكفاء‭ ‬على‭ ‬الذات؛‭ ‬وإنما‭ ‬المقصود‭ ‬هو‭ ‬الاعتزاز‭ ‬بالانتماء،‭ ‬وعدم‭ ‬جلد‭ ‬الذات؛‭ ‬مع‭ ‬إيجاد‭ ‬مساحة‭ ‬للتفاعل‭ ‬مع‭ ‬الآخر‭ ‬والاستفادة‭ ‬من‭ ‬خبراته؛‭ ‬بما‭ ‬يقوي‭ ‬ويعزز‭ ‬التكامل‭ ‬بين‭ ‬الثقافات‭ ‬والحضارات‭ ‬والشعوب؛‭ ‬تحقيقا‭ ‬لهدف‭ ‬سام‭ ‬هو‭ ‬التعارف،‭ ‬‮«‬‭...‬وجعلناكم‭ ‬شعوبا‭ ‬وقبائل‭ ‬لتعارفوا‮»‬‭.‬

ولو‭ ‬نظرَ‭ ‬المرءُ‭ ‬نظرةَ‭ ‬تأمل‭ ‬إلى‭ ‬فترة‭ ‬العهد‭ ‬المكي‭ ‬وما‭ ‬صاحبَها‭ ‬من‭ ‬أحداث‭ ‬لوجد‭ ‬أنَّ‭ ‬القرآنَ‭ ‬كان‭ ‬يوجه‭ ‬إلى‭ ‬ترسيخ‭ ‬معانيَ‭ ‬العزة‭ ‬في‭ ‬نفسِ‭ ‬المسلم،‭ ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬اهتمامُ‭ ‬القرآن‭ ‬وعنايتُه‭ ‬بهذا‭ ‬الجانب‭ ‬متنوعا‭ ‬على‭ ‬أربع‭ ‬هيئات؛‭ ‬فمرةً‭ ‬يذكرُ‭ ‬لفظ‭ ‬العزة‭ ‬تصريحا،‭ ‬وأخرى‭ ‬يَذكر‭ ‬اللفظ‭ ‬الذي‭ ‬يؤول‭ ‬معناه‭ ‬إلى‭ ‬عزة،‭ ‬وثالثةً‭ ‬يذكرُ‭ ‬السببَ‭ ‬الذي‭ ‬مِن‭ ‬شأنه‭ ‬أنْ‭ ‬يكونَ‭ ‬جسرا‭ ‬مُوصلا‭ ‬إلى‭ ‬بوابة‭ ‬العزة،‭ ‬ورابعةً‭ ‬بذم‭ ‬أضدادها‭ ‬ومقابلاتها‭ ‬فقد‭ ‬وردتْ‭ ‬لفظةُ‭ ‬العزة‭ ‬ومشتقاتهُا‭ ‬في‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬مائة‭ ‬وتسعَ‭ ‬عشرة‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬ثمانٍ‭ ‬وأربعين‭ ‬سورة،‭ ‬كان‭ ‬نصيبُ‭ ‬الآيات‭ ‬المكية‭ ‬منها‭ ‬للفظ‭ ‬الصريح‭ ‬أكثرَ‭ ‬من‭ ‬الآيات‭ ‬المدنية،‭ ‬وذلك‭ ‬مِن‭ ‬أجل‭ ‬تأسيس‭ ‬معنى‭ ‬العزة‭ ‬في‭ ‬النفوس‭. ‬والله‭ ‬أعلم‭.[‬3‭]‬

وأما‭ ‬آياتُ‭ ‬العزة‭ ‬المدنية‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬صريحة‭ ‬في‭ ‬طلب‭ ‬العزة‭ ‬وتهييج‭ ‬نفوس‭ ‬المؤمنين‭ ‬على‭ ‬اكتسابها،‭ ‬والترهيب‭ ‬من‭ ‬تركها‭ ‬أو‭ ‬طلبها‭ ‬من‭ ‬غيرِ‭ ‬مظانِّها،‭ ‬ولا‭ ‬أدلَّ‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬آيتي‭ ‬سورة‭ ‬النساء‭ ‬وسورة‭ ‬المنافقون،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬معرِض‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬المنافقين‭ ‬وذمِّهم،‭ ‬بسبب‭ ‬ولائهم‭ ‬لأعداء‭ ‬الامة،‭ ‬قال‭ ‬تعالى‭: {‬الَّذِينَ‭ ‬يَتَّخِذُونَ‭ ‬الكَافِرِينَ‭ ‬أَوْلِيَاءَ‭ ‬مِن‭ ‬دُونِ‭ ‬المُؤْمِنِينَ‭ ‬أَيَبْتَغُونَ‭ ‬عِندَهُمُ‭ ‬العِزَّةَ‭ ‬فَإِنَّ‭ ‬العِزَّةَ‭ ‬لِلَّهِ‭ ‬جَمِيعاً‭} (‬النساء‭: ‬139‭)‬،‭ ‬وردَّ‭ ‬ادعاءهمُ‭ ‬الباطلَ‭ ‬بأنهم‭ ‬أصحابُ‭ ‬شرف‭ ‬وعزة‭ ‬بقوله‭ ‬تعالى‭: {‬يَقُولُونَ‭ ‬لَئِن‭ ‬رَّجَعْنَا‭ ‬إِلَى‭ ‬المَدِينَةِ‭...}‬،‭ ‬وجاءت‭ ‬آية‭ ‬سورة‭ ‬ِالمائدة‭ ‬تصبُّ‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬الاتجاه‭ {‬يَأَيُّهَا‭ ‬الَّذِينَ‭ ‬آمَنُوا‭ ‬مَن‭ ‬يَرْتَدَّ‭ ‬مِنكُمْ‭ ‬عَن‭ ‬دِينِهِ‭ ‬فَسَوْفَ‭ ‬يَأْتِي‭ ‬اللَّهُ‭ ‬بِقَوْمٍ‭ ‬يُحِبُّهُمْ‭ ‬وَيُحِبُّونَهُ‭ ‬أَذِلَّةٍ‭ ‬عَلَى‭ ‬المُؤْمِنِينَ‭ ‬أَعِزَّةٍ‭ ‬عَلَى‭ ‬الكَافِرِينَ‭ ‬يُجَاهِدُونَ‭ ‬فِي‭ ‬سَبِيلِ‭ ‬اللَّهِ‭ ‬وَلاَ‭ ‬يَخَافُونَ‭ ‬لَوْمَةَ‭ ‬لائِمٍ‭ ‬ذَلِكَ‭ ‬فَضْلُ‭ ‬اللَّهِ‭ ‬يُؤْتِيهِ‭ ‬مَن‭ ‬يَشَاءُ‭ ‬وَاللَّهُ‭ ‬وَاسِعٌ‭ ‬عَلِيمٌ‭} (‬المائدة‭: ‬54‭) ‬هذا‭ ‬وقد‭ ‬وردت‭ ‬لفظة‭ ‬العزة‭ ‬في‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬اثنتين‭ ‬وتسعين‭ ‬مرة،‭ ‬كان‭ ‬نصيبُ‭ ‬المكي‭ ‬منها‭ ‬ثمانيَ‭ ‬وأربعينَ‭ ‬آية،‭ ‬وكان‭ ‬لهذا‭ ‬الاهتمام‭ ‬المكي‭ ‬بهذه‭ ‬اللفظة‭ ‬حكمة‭ ‬ٌبالغة‭ ‬من‭ ‬الله‭ ‬عز‭ ‬وجل،‭ ‬وهي‭ ‬أنَّ‭ ‬الله‭ ‬أراد‭ ‬أنْ‭ ‬تمتلئَ‭ ‬أسماعُ‭ ‬المؤمنين‭ ‬بهذه‭ ‬اللفظةِ،‭ ‬وترسخَ‭ ‬معانيها‭ ‬في‭ ‬أذهانهم،‭ ‬فيتربون‭ ‬على‭ ‬حبها‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬الأمر،‭ ‬حتى‭ ‬يسيطرَ‭ ‬عليهمُ‭ ‬اليقينُ‭ ‬بعزة‭ ‬ربهم،‭ ‬ويستشعروا‭ ‬القوةَ‭ ‬في‭ ‬أنفسهم‭ ‬ويعتزوا‭ ‬بمن‭ ‬له‭ ‬الكبرياءُ‭ ‬وحده‭ ‬في‭ ‬السموات‭ ‬والأرض،‭ ‬ويتأبوْا‭ ‬عل‭ ‬الهوان‭ ‬حين‭ ‬يأتيهم‭ ‬من‭ ‬أيِّ‭ ‬مخلوق،‭ ‬ويفزعوا‭ ‬إلى‭ ‬الله‭ ‬ليُعزَّهم‭ ‬بعزته‭[‬4‭]‬

إن‭ ‬ابرز‭ ‬معنى‭ ‬للإستقلال‭ ‬الشعور‭ ‬بالأمن‭ ‬والحرية‭ ‬والاعتزاز‭ ‬بالإنتماء‭ ‬للوطن‭ ‬فكراً‭  ‬وروحاً‭ ‬وتراثاً‭ ‬وتراباً‭. ‬

لقد‭ ‬تعرضت‭ ‬أمتنا‭ ‬لعدوان‭ ‬ثقافي‭ ‬وفكري‭ ‬واستعماري‭ ‬شوه‭ ‬تاريخها‭ ‬وزلزل‭ ‬قناعات‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الذين‭ ‬تربوا‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬الاستعمار‭ ‬ولكن‭ ‬هيأ‭ ‬الله‭ ‬المخلصين‭ ‬والمجتهدين‭ ‬من‭ ‬المصلحين‭ ‬فتصدوا‭ ‬للغزو‭ ‬الاستعماري‭ ‬الفكري‭ ‬والثقافي‭ ‬والسياسي‭ ‬يفندون‭ ‬افتراءاته‭ ‬ويبطلون‭ ‬حججه‭ ‬ويؤكدون‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬تميز‭ ‬أمتنا‭ ‬الثقافي‭ ‬والحضاري‭ ‬تأكيدا‭ ‬لوعد‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ :‬‮»‬‭ ‬يهيء‭ ‬الله‭ ‬لهذا‭ ‬العلم‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬عصر‭ ‬عدوله‭ ‬ينفون‭ ‬عنه‭ ‬تحريف‭ ‬الغالين‭ ‬وانتحال‭ ‬المبطلين‭ ‬وتأويل‭ ‬الجاهلين‮»‬‭ ‬إن‭ ‬منهج‭ ‬الوسطية‭ ‬يهدف‭ ‬إلى‭ ‬صيانة‭ ‬هوية‭ ‬الأمة‭ ‬واستقلالها‭ ‬وتعزيز‭ ‬روح‭ ‬الانتماء‭ ‬في‭ ‬أفرادها‭ ‬وجماعتها‭ ‬حتى‭ ‬تحقق‭ ‬دورها‭ ‬في‭ ‬الشهود‭ ‬الحضاري‭ ‬وذلك‭ ‬بالآتي‭:‬

أولا‭: ‬إبراز‭ ‬عناصر‭ ‬التميز‭ ‬التي‭ ‬أكرم‭ ‬الله‭ ‬بها‭ ‬أمة‭ ‬الإسلام‭: ‬حيث‭ ‬جعلها‭ ‬آخر‭ ‬الأمم‭ ‬التي‭ ‬تؤمن‭ ‬بسلسلة‭ ‬الرسالات‭ ‬السابقة،‭ ‬وتصدق‭ ‬كتبها،‭ ‬وتشهد‭ ‬على‭ ‬الأمم‭ ‬السابقة‭ ‬بأن‭ ‬رسل‭ ‬الله‭ ‬قد‭ ‬بلغوهم‭ ‬أمر‭ ‬ربهم،‭ ‬كذلك‭ ‬اشتملت‭ ‬الرسالة‭ ‬الخاتمة‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬الأصول‭ ‬التي‭ ‬اتفقت‭ ‬عليها‭ ‬الرسالات‭ ‬السابقة،‭ ‬وزادت‭ ‬عليها‭ ‬بالقيم‭ ‬التي‭ ‬تؤهلها‭ ‬لدور‭ ‬الرسالة‭ ‬الخاتمة،‭ ‬ومن‭ ‬عناصر‭ ‬التميز‭ ‬تبسيط‭ ‬التشريع‭ ‬ورفع‭ ‬الاصر‭ ‬والتدرج‭ ‬في‭ ‬الأحكام‭ ‬وملاءمتها‭ ‬للفطرة‭ ‬والتكريم‭ ‬للانسان‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬أنه‭ ‬إنسان؛‭ ‬بغض‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬لونه‭ ‬أو‭ ‬دينه‭ ‬أو‭ ‬نوعه‭ ‬أو‭ ‬ثقافته،‭ ‬كذلك‭ ‬مواكبة‭ ‬التشريع‭ ‬وقدرته‭ ‬على‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬المستجدات‭ ‬مهما‭ ‬اختلف‭ ‬الزمان‭ ‬والمكان‭ ‬والبيئة،‭ ‬ويجمع‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬الكتاب‭ ‬المعجز‭ ‬في‭ ‬نصه‭ ‬وفي‭ ‬صياغته‭ ‬وفي‭ ‬معارفه‭ ‬وفي‭ ‬هدايته‭ ‬وفي‭ ‬نبوءاته‭. ‬قال‭ ‬تعالى‭: ‬‮«‬ذلك‭ ‬الكتاب‭ ‬لا‭ ‬ريب‭ ‬فيه‭ ‬هدى‭ ‬للمتقين‮»‬

ثانيا‭:‬تحديد‭ ‬المرجعية‭ ‬والغاية‭: ‬مايميز‭ ‬أمتنا‭ ‬هو‭ ‬وضوح‭ ‬المرجعية‭ ‬والغاية،‭ ‬فمعظم‭ ‬البشر‭ ‬يقرون‭ ‬بوجود‭ ‬الخالق‭ ‬‮«‬ولئن‭ ‬سألتهم‭ ‬من‭ ‬خلقهم‭ ‬ليقولن‭ ‬الله‮»‬‭ ‬والفارق‭ ‬بيننا‭ ‬وبينهم‭ ‬هوأنهم‭ ‬يظنون‭ ‬أن‭ ‬الله‭ ‬خلق‭ ‬الكون‭ ‬وتركه‭ ‬لهم‭ ‬ليديروه‭ ‬حسب‭ ‬هواهم‭! ‬ونحن‭ ‬نؤمن‭ ‬أنه‭ ‬خلقه‭ ‬ولم‭ ‬يتركه‭ ‬سدى‭ ‬وإنما‭ ‬حدد‭ ‬منهجا‭ ‬لإدارته،‭ ‬وبيَّن‭ ‬ثوابت‭ ‬هذا‭ ‬المنهج‭ ‬والمجالات‭ ‬التي‭ ‬يجوز‭ ‬فيها‭ ‬الاجتهاد‭ ‬ولتحقيق‭ ‬وظيفة‭ ‬الاستخلاف؛‭ ‬منح‭ ‬الله‭ ‬الإنسان‭ ‬الأدوات‭ ‬التي‭ ‬تمكنه‭ ‬من‭ ‬اكتشاف‭ ‬السنن‭ ‬والقوانين‭ ‬المودعة‭ ‬في‭ ‬الأشياء‭ ‬ليطور‭ ‬ويبدع‭ ‬ويستفيد‭ ‬من‭ ‬الكون‭ ‬المسخر‭ ‬له‭. ‬والإيمان‭ ‬بالمعاد‭ ‬يعطي‭ ‬الحياة‭ ‬معنى،‭ ‬فالأمل‭ ‬يذلل‭ ‬العقبات‭ ‬التي‭ ‬تواجه‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬طريقه‭ ‬ويجعله‭ ‬مطمئنا‭ ‬بأن‭ ‬جهوده‭ ‬لن‭ ‬تضيع‭ ‬مادام‭ ‬هنالك‭ ‬عدل‭ ‬مطلق‭ ‬ينتظره؛‭ ‬والمحاسِب‭ ‬يعلم‭ ‬خائنة‭ ‬الأعين‭ ‬وماتخفي‭ ‬الصدور‭.‬

ثالثا‭: ‬القيم‭ ‬الحضارية‭ ‬لأمتنا‭: ‬أمة‭ ‬الإيمان‭ ‬تعتز‭ ‬بانتمائها‭ ‬وعبوديتها‭ ‬لله،‭ ‬وتدرك‭ ‬أنها‭ ‬نالت‭ ‬قصب‭ ‬السبق‭ ‬في‭ ‬إقرار‭ ‬وحدة‭ ‬الأصل‭ ‬الإنساني؛‭ ‬وصيانة‭ ‬كرامة‭ ‬الإنسان‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬هو‭ ‬إنسان؛‭ ‬والاعتراف‭ ‬بحق‭ ‬المخالف‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬والاعتقاد‭ ‬والتفكير‭ ‬والدعوة؛‭ ‬وكفالة‭ ‬العدل‭ ‬والمساواة‭ ‬والحرية‭ ‬للجميع؛‭ ‬ولم‭ ‬تحاسب‭ ‬اللاحقين‭ ‬بذنوب‭ ‬السابقين،‭ ‬وحصرت‭ ‬الادانة‭ ‬في‭ ‬الجاني‭ ‬ولم‭ ‬تنسحب‭ ‬على‭ ‬أسرته،‭ ‬فهي‭ ‬أمة‭ ‬الإيمان‭ ‬والعمران‭ ‬والإيمان‭ ‬بالبعث‭ ‬والمعاد‭.‬

رابعا‭: ‬منهج‭ ‬الانفتاح‭ ‬والتعامل‭ ‬مع‭ ‬الآخر‭: ‬مع‭ ‬الاعتزاز‭ ‬بالانتماء‭ ‬فإن‭ ‬أمة‭ ‬الإسلام‭ ‬فتح‭ ‬لها‭ ‬مجال‭ ‬الانفتاح‭ ‬على‭ ‬الآخر‭ ‬والاستفادة‭ ‬من‭ ‬تجربته،‭ ‬‮«‬فالحكمة‭ ‬ضالة‭ ‬المؤمن‭ ‬حيث‭ ‬وجدها‭ ‬أخذها‮»‬‭ ‬ورسولنا‭ ‬الخاتم‭ ‬جاء‭ ‬ليتمم‭ ‬مكارم‭ ‬الأخلاق؛‭ ‬بل‭ ‬احتفى‭ ‬بحلف‭ ‬الفضول‭ ‬وقال‭:‬‮»‬لو‭ ‬دعيت‭ ‬إلى‭ ‬مثله‭ ‬في‭ ‬الإسلام‭ ‬لأجبت‮»‬‭! ‬وبنص‭ ‬القرآن‭: ‬‮«‬‭ ‬ولايجرمنكم‭ ‬شنئان‭ ‬قوم‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬تعدلوا‭ ‬اعدلوا‭ ‬هو‭ ‬أقرب‭ ‬للتقوى‮»‬‭ ‬فالاستقلال‭ ‬لم‭ ‬يمنع‭ ‬التواصل‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬ماهو‭ ‬نافع‭ ‬من‭ ‬عطاء‭ ‬الإنسانية؛‭ ‬إنه‭ ‬استقلال‭ ‬إيجابي‭ ‬وليس‭ ‬سلبيا‭.‬

خامسا‭:‬مقومات‭ ‬المحافظة‭ ‬على‭ ‬الاستقلال‭ ‬وصيانته‭:‬إن‭ ‬المحافظة‭ ‬على‭ ‬هوية‭ ‬الأمة‭ ‬والاعتزاز‭ ‬بالانتماء‭ ‬وصيانة‭ ‬استقلالها‭ ‬يتحقق‭ ‬بتوافر‭ ‬مقومات‭ ‬معينة‭ ‬هي‭:‬

‭- ‬وضوح‭ ‬الثوابت‭ ‬الوطنية‭ ‬والالتزام‭ ‬بها‭ ‬وعدم‭ ‬التفريط‭ ‬فيها‭.‬

‭- ‬ربط‭ ‬الانتماء‭ ‬بمتطلبات‭ ‬الإنسان‭ ‬الفطرية‭ ‬الضرورية‭ ‬وتعزيز‭ ‬روح‭ ‬الانتماء‭ ‬للامة‭ ‬الواحدة‭.‬

‭- ‬تمكين‭ ‬قيم‭ ‬العدل‭ ‬والحرية‭ ‬والكرامة‭ ‬لجميع‭ ‬مكونات‭ ‬الوطن‭.‬

‭- ‬إحياء‭ ‬المنهج‭ ‬الذي‭ ‬يحث‭ ‬على‭ ‬العلم‭ ‬وتوطين‭ ‬وانتاج‭ ‬المعرفة‭ ‬وتفعيل‭ ‬حركة‭ ‬المجتمع‭.‬

‭- ‬تعزيز‭ ‬عوامل‭ ‬المشترك‭ ‬الإنساني‭ ‬وابرازها‭ ‬والدعوة‭ ‬لها‭ ‬لتأكيد‭ ‬المرونة‭ ‬في‭ ‬التعاطي‭ ‬مع‭ ‬الملف‭ ‬العالمي‭ ‬والمنظومة‭ ‬الدولية‭. ‬

‭- ‬الوعي‭ ‬بالواقع‭ ‬وعلاقاته‭ ‬المتشابكة‭ ‬والتعامل‭ ‬معه‭ ‬برشد‭ ‬واحترام‭ ‬الحريات‭ ‬السياسية‭ ‬للمكونات‭ ‬المختلفة‭.‬

‭- ‬الوعي‭ ‬بالأخطار‭ ‬التي‭ ‬تهدد‭ ‬الاستقلال‭ ‬وتحديد‭ ‬البوصلة‭ ‬الدقيقة‭ ‬للعدو‭ ‬والصديق‭.‬

.................

‭‬م‭. ‬مروان‭ ‬الفاعوري

‭‬الأمين‭ ‬العام‭ ‬للمنتدى‭ ‬العالمي‭ ‬للوسطية