أنباء الوطن - بقلم/ كفايه حديدون
شكل الإرهاب قاعدة رئيسة قامت عليها إسرائيل ، وضرورة حتمية لوجودها وبقائها وتمددها ، وتداخل العنف منصهرا في النسيج الثقافي والعقائدي والأيديولوجي للهوية اليهودية ، فمنذ أن وطئت أقدامهم أرض فلسطين كانت لغة القتل والتخريب والنهب والاستيلاء على الأرض والتهجير القسري للسكان واقعاً يومياً مٌعاشاً مٌورس في السر والعلن، و الليل والنهار مشكلاً عقيدة ثابتة تُرسخ الإيمان بالقوة المطلقة كسبيل أوحد لتحقيق الأهداف التي تصبو إليها ، وكان من أهمها اقتلاع شعب من جذوره وتشتيته في الخيام وفي زوايا الأرض الأربعة، وتفريغ الأرض لأفواج المهاجرين ، و شطب الهوية العربية الإسلامية لشعب فلسطين، وتحقيق أهدافهم الديموغرافية والاستيراتيجية .
وتُعد المجازر الإسرائيلية شاهداً حياً على الوحشية الصهيونية ووصمة عار على جبين الضمير الإنساني العالمي الذي لم يردع إسرائيل يوماً عن ارتكاب جرائمها سواء أكان ذلك قبل النكبة أم بعد قيام إسرائيل 1948م ، فقد نشطت العصابات الصهيونية المتعارف عليها من هاغاناه وأرغون في ارتكاب مجازر نوعيه منظّمة وممنهجه ، بغية تهجير السكان وبث الرعب في قلوبهم ، فكانت المدن الفلسطينية مسرحاً لهذه الأعمال الإرهابية، كالقدس ويافا وحيفا .
ومنذ تلك الحقبة والوجه الإجرامي الحافل بالمآسي لإسرائيل يتكشف يوماً بعد يوم، ومسلسل البطش والقتل والتنكيل والتهجير لم يهدأ ساعه وآلة الموت تحصد أرواح الأبرياء دون هوادة.
وتعد مجزرة باب العمود التي ارتكبتها عصابات أرغون في باب العمود في تاريخ 29/12/1947م، وسقط فيها 14 شهيداً ، وجرح 27، واحدة من القائمة السوداء الطويلة التي تعج بالإجرام وأسماء الضحايا والأبرياء ، ومن ضحايا هذه المجزرة الشهيدة ” فاطمه حسن عياد” التي لم يرد ذكرها في المراجع ولم تنل حظاً كافياً من التعريف؛ نظراً لشح المعلومات المتوفرة عنها، وهذا ما دفعني للنبش في الذاكرة المنسية، والوصول إلى من عايشوا الواقعة وشهدوا على المجزرة ، ومن هؤلاء شقيقة الشهيدة، كرم عياد والحاج عبدالله يوسف حلبية، وفي معرض حديثي مع شقيقة الشهيدة التي خط الزمن تضاريسه على ملامح وجهها ورسم العمر حكاياته عليه قالت :” بدا ذاك اليوم نهاراً طبيعياً اعتيادياً ، لم أعلم بأنه سيبقى في الذاكرة مزدحماً بالأحزان، ويتباطأ بعده نبض القلب فقد كانت فاطمة تنوي الذهاب إلى القدس للعلاج عند الطبيب المسمى (باز) في منطقة المصرارة ، وقد أصرت الشهيدة التي كانت تبلغ التاسعة عشرة من عمرها على اصطحابي برفقة شقيقتي الصغرى رقية البالغه من العمر أربع سنوات ، وبعد الانتهاء من زيارة الطبيب قمنا بالتنزه في الأحياء القريبة ومنطقة باب العمود في يوم مشمس ولطيفا من أيام الشتاء ، و شوارع المدينة عامرة وصاخبة ومكتظة بالمارة والمتسوقين والتجار الذين جاؤوا من كل حدب وصوب ، فقد كانت القدس تشكل مركزاً تجارياَ للقرى والبلدات المحيطة كافة، ومن ثم هممنا بالعودة إلى البلدة (أبوديس) لتناول طعام الغداء (ورق دوالي على النار ) مع والدتنا، فتوجهنا إلى باب العمود حيث كانت تصطف الباصات في ذلك الحين ، بما فيها باص البلدة المعروف ( بباص عطا الساري ) وفي تلك الأثناء بدأت حركة عشوائية للمتسوقين وبدأ الناس بالركض وبالصراخ مرددين “لغم لغم”، كنت أنظر بعيون تائهة وأراقب المشهد دون وعي أو إدراك بما يحدث وشاهدت سيارة كحلية اللون ترجل منها رجلان قاما بإخراج براميل كبيرة ، ثم أشعل أحدهم سيجارة وحبلا متصلاً بالبرميلين ولاذا بالفرار ، في تلك اللحظة التي توقفت فيها عقارب الزمن وعجزت عن استيعابها ضمن مساحتي الذهنية لطفلة تبلغ الثمانية أعوام -استكملت أم سامي الحديث بحفنة من الآهات وجرعة من التنهدات- لم أر بعد ذلك سوى أِشلاء تتناثر واطرافاً تبتر وملامح اختلطت ببعضها ، تحول السوق إلى ساحة موت في دقائق معدودة سقطت فاطمة واستشهد بائع السوس الذي كان يصدح بصوته النابض بالحياة ، ليملأ أرجاء السوق وليختلط السوس بالدماء ، وفاطمة إلى جانبي مسجاة على الأرض وجسدها مخضّب بالدماء، حاولت جاهدة مساعدتها فالتقطت بعضاَ من قطرات السوس لأرطب به شفتيها ،علها تستجمع قواها لكن دون جدوى فقد كانت لسعات الموت وشظايا الحقد قد حجزت مكانها في القلب ،ولفظت أنفاسها الأخيرة ، احتضنت حزني دون أن أعلم بأنني مصابة إصابات متفرقة بجسدي، إلى جانب شقيقتي الصغرى رقيه التي لم ترحم شظايا الحقد الصهيوني أية بقعة في جسدها النحيل وجرى إدخالها مباشرة غرفة العمليات؛ نظراً لوضعها الحرج، وتم اقتطاع أجزاء كبيرة من أمعائها فكان ذلك سبباً مباشرا في وفاتها بعد حين.
ولم تنته فصول المجزرة بل كان هناك جيش إنجليزي يتمركز بالقرب من الأسطح القريبة من باب العمود و قد شارك في الجريمة وأطلق النار بشكل عشوائي لتفريق جموع الناس الذين حاولوا إسعاف الجرحى والمصابين ونقل الشهداء وجاء بعد ذلك الجيش العربي وبدأ بنقل الشهداء والمصابين الى مشافي الفرنساوي في الشيخ جراح ومستشفى المسكوبية التابع للجيش البريطاني حيث مكثت وشقيقتي رقية أكثر من شهر، وتم نقل الشهداء إلى بلداتهم بمن فيهم الشهيدة فاطمة والشهيد محمد عبد الديك من نفس البلدة . ويضيف الحاج عبدالله يوسف حلبية ويؤكد تفاصيل المجزرة المروعة بأن جرى دفن الشهداء في قبور جماعية تشبه المغارة على مدى يومين.
رحلت فاطمة تاركة وراءها رضيعتها حفيظة التي لم يتجاوزعمرها سنة وثمانية أشهر، بقيت تنتظر عودتها في كل صباح ومساء وترجوها بألا ترحل ، وتودّع تفاصيل ما تبقى من والدتها ، رحلت فاطمة لتترك لحفيظة آهات وفيض تساؤلات لم تنته في الجزء المتبقي من عمرها ، رحلت ونسائم شوق تشعل نيرانها في القلب ، رحلت فاطمة وحُرمت حفيظة من أن تتوسد يوماً حضن والدتها وتنهل من فيض حنانه، فكل ما تعرفه حفيظة عن والدتها هو معطف وردي تلجأ إليه وتحتضنه بشوقها المحروم علّه يطفئ لهيب القلب ويروي شغف حنينها.
لم تنته المجازر الإسرائيلية يوماً، ولا أحد يحاسب إسرائيل على جرائمها، فالعالم لا يحرّك ساكنا ، ولا يجرؤ على الوقوف في وجه الظلم، وقلمي لا يملك إلا أن يكتب هذا التقرير إحياء للذاكرة الفلسطينية وتخليداً لذكرى جدتي ووفاء لروح والدتي حفيظة التي رحلت وهواجس الذكريات تشدّني حنينا لحضنها الدافئ وقلبها الحنون، ولنؤكد للعالم أجمع بأن هذه الجرائم لن تسقط بالتقادم ولن تمر دون حساب وكما قلنا دوماً لن تهزمنا عصا الجلاد وسياط القهر المذعورة ، فبصدرنا وطن وبقلبنا افق يمتد وعصفورا.
الصورة للطفلة رقية عياد شقيقة الشهيدة فاطمة عياد والتي تعرضت لإصابات حرجة والشرطي هو السيد حسن وحيش .