قصة حب جمعت مدينتين «يافا واللاذقية»

كتبت : هناء الرملي
قصة والدي ووالدتي .. «صلاح الدين الرملي، وناديا حاج قاسم» رحمهما الله
قصة ابتدأت في زمن ما قبل النكبة واستمرت بعد النكبة وفي دول الشتات .. ولن تنتهي ..
كتبتها تلبية لطلب «وكالة الأنباء الفلسطينية- وفا» ..من الصحفي والكاتب يامن نوباني ..
ليتم نشرها بعنوان:
العرس في يافا.. والعروس من اللاذقية
- هو الابن البكر لأب عصامي، عاد أبوه «محمود حسن الرملي» إلى يافا في مطلع القرن الماضي بعد رحلة طويلة في بلاد المهجر بين البرازيل والأرجنتين استمرت ما يقارب العشرين عاما، بعد أن جمع ثروة من عمله بتجارة الجلود فيهما، وقد أخذ عهدا على نفسه بالعودة إلى يافا وترك بلاد المهجر، خوفا من أن يموت بعيدا عن فلسطين بعد مرضه بالتيفوئيد في الأرجنتين، ورقوده في المستشفى ما يزيد عن ثلاثة أشهر، وما إن منَّ الله عليه بالشفاء حتى جمع ثروته وعاد إلى يافا، ليتزوج بنت من عائلة يافية هي «فاطمة ديب بامية» في عام 1928، ويؤسس محلا تجاريا ومستودعات في سوق الصلاحي في يافا، حيث عمل في استيراد وتصدير الأغلال بين فلسطين وسوريا ولبنان ومصر، ويشتري منزلاً جميلا «في حي العجمي تلة العرقتنجي- شارع عبد الرؤوف بيطار المقابل لكنيسة اللاتين وبجوار كنيسة البروتستانت ومقبرة الأرمن وخلف المستشفى الإنجليزي»، حيث شهد البيت حياة وافرة بالحب والعطاء والكرم، كما شهد ولادة سبع أطفال ستة أولاد وبنت هم «صلاح الدين، عماد الدين، نزار، مروان، عبيدة، حسان ومحمد».
كان صلاح الدين الرملي هو باكورة هذه العائلة حيث ولد عام 1929، ثم تبعه ثلاثة من إخوته.
كان أبو صلاح ابن عائلة تنتمي وتقيم في قرية المسمية الكبيرة والتي تبعد 35 كيلو متر عن يافا. وقد أرسله والده ليقيم في يافا وهو في سن صغيرة ليكمل تعليمه المدرسي ويعمل بها، لما وجدوا به من رغبةً في العلم وطموحاً لا حدود له. فنشأ ابنه صلاح الدين على حب يافا وحياة المدينة فيها والانتماء لقريته «المسمية الكبيرة» وأهلها، والحياة بها في الإجازات الصيفية وإجازة نهاية أسبوع، حيث سعى والده على توطيد علاقاته وأبنائه بأهل القرية والمدينة على السواء، كما سعى لامتلاك بيارة برتقال كبيرة المساحة وبنى عليها بيتهم الصيفي. وكان يستقبل أبناء قريته بكل كرم الضيافة عند زيارتهم ليافا ويفرد غرفة ضيافة في بيته الكبير في العجمي لهم.
درس صلاح الدين في مدرسة الفرير هو وإخوته، وكان لدى صلاح الدين شغف كبير بالقراءة، فلم يكن أي كتاب يقع بين يديه حتى يفرغ من قراءته بعد ساعات قليلة ليبدأ بغيره. كان مهتما باللغات والفنون والسينما والمسرح ويسعى لحضور كل ما يستجد منها في سينما الحمرا، سواء أفلام أو حفلات غنائية وموسيقية وعروض مسرحية.
في عام 1947 عند بلوغ صلاح الدين سن 18 سنة قرر والداه تزويجه فقد كان شابا وسيماً ملفتا للانتباه بقامته الطويلة وبرشاقته وملامحه البريئة والجذابة، فقد خافوا عليه من الفتنة والإغواء كون يافا مجاورة لمدينة تل أبيب الحافلة بالفتيات اليهوديات الأجنبيات القادمات من أوروبا وأمريكا، فكانت والدته تسعى وتسأل عن «بنت الحلال» المناسبة لتزوجه.
كعادة سيدات يافا قبل نكبة 1948 في إقامة إستقبالات إجتماعية في فترة العصر، حيث تعتمد كل سيدة يوما لها ليكون صالونها الأسبوعي، أو مايسمى «الاستقبال»، يلتقين للحديث والترويح عن أنفسهن، والتعارف فيما بينهن، والبحث عن عروس لكل شاب اصبح في سن الزواج، و ذات لقاء سألت أم صلاح وهي في صالون بيت أختها «حسيبة ديب بامية» ولقبها «أم شكري جبر» عن بنت حلال مناسبة لابنها البكر، فكان من بين السيدات الضيوف السيدة أم غسان كنفاني، وهي جارة «أم شكري» في نفس المبنى حيث أقامت عائلة غسان كنفاني في يافا عدة سنوات في بيت في حي المنشية بالقرب من مسجد حسن بيك.
أشارت أم غسان كنفاني على أم صلاح ورجحت لها صبية في سن الزواج تدعى «ناديا حاج قاسم» وهي ابنة لعائلة سورية مقيمة في يافا منذ سنوات طويلة، الطالبة في مدرسة الزهراء والابنة الرابعة لأهلها حيث تزوجن أخواتها من عائلات يافية «شعبان وزعبلاوي وخلف». ولديهم سمعة وخلق يشهد لهم كل من عرفهم في يافا وسوريا.
كانت أم غسان كنفاني بحكم الجيرة صديقة وجارة لهذه العائلة السورية «حاج قاسم» التي حضرت من شمال الساحل السوري «اللاذقية» إلى يافا في في ثلاثينيات القرن الماضي وأقامت فيها، حيث أسس الوالد «أحمد حاج قاسم» مشروعاً تجارياً لاقى رواجا كبيراً ونجاحا فائقا وهو مشغل خياطة للبدلات الرجالية محضراً عدة خياطين من سوريا، حيث كان معروفا عن أهل يافا من نساء ورجال حبهم للأناقة والمظهر الجميل اللائق.
وقد طور أحمد حاج قاسم أعماله فأسس محل للحلويات العربية وأحضر معلمين في صناعة الحلويات العربية الشامية من اللاذقية، وكان المحل مشهور بحلويات لاذقانية خاصة بمدينة اللاذقية فقط كالجزرية واللوزينا وغيرها.
أخبرت أم صلاح زوجها أنها وجدت العروس المناسبة لابنهم صلاح، بنصيحة وتوجيه من أم غسان كنفاني، وحدثته عن عائلة حاج قاسم السورية الأصل، لم يكن لدى أهل يافا أي تمييز بين العائلات اليافاية وبين أي عائلة قادمة من الخارج، كانت الانسانية والأخلاق الطيبة هي التي تجمع بين الناس، وشعور الرابط والانتماء لبلاد الشام هو السائد حينها بين أهل يافا، حيث ضمت يافا عائلات سورية ولبنانية قدموا على نفس الساحل المطل على البحر الابيض المتوسط ، ينتمون لذات البحر وذات الأرض.
وتمت إجراءات طلب العروس بالطرق المتعارف عليها زيارة أبو صلاح وام صلاح وصلاح لبيت أهل العروس في حي المنشية بعد أخذ موعد مسبق، اللقاء الأول والتعارف وطلب يد العروس.
كانت ناديا حاج قاسم مواليد 1932 .. وكانت حينها بعمر 15 عاما، ناديا الفتاة النحيلة السمراء ذت الملامح الشرقية الجذابة والروح الجميلة، فتاة ذكية كلها طاقة وحيوية، محبة للجمال والحياة والقراءة، كانت تتابع وتقرأ المجلات والصحف وتشاهد صور الملوك والأمراء في دول العالم، لفت انتباهها جمال شاه ايران في شبابه، تشكلت ملامح فارس أحلامها في خيالها بمقاييس جمال شاه إيران، حتى تحقق حلمها ولم تصدق ما رأت حين وجدت عريسها الشاب صلاح الدين الرملي يشبهه إن لم يفقه جمالا.
كان حفل الزفاف في نهاية عام 1947، ثم أقام العروسين في بيت أبو صلاح في حي العجمي تلة العرقتنجي، وكانت إقامتهم مع الأهل مؤقتة حيث كان أبو صلاح الرملي قد باشر ببناء عمارة في حي العجمي من ثلاث طوابق ليكون لكل ابن من أبنائه الشباب بيته الخاص.
خلال أشهر قليلة من الزواج أتى خبر حمل ناديا بالحفيد الأول للعائلة، لم يكن للفرح متسع لديهم، لكن قدر لهذا الفرح أن يدمر، حين أعلنت الحرب في يافا وبدأت المجازر وتهديد العائلات بالقتل، وطلب من رجال يافا أن يسعوا لنقل أفراد عائلاتهم من نساء وبنات ومسنين وأطفال، حتى تنتهي الحرب ليعودوا مجددا إلى يافا كي يحموهم من جرائم القتل والاغتصاب، فكانت العائلة التي يكبرها صلاح والمكونة من أبو صلاح وأم صلاح وزوجته و خمسة أولاد وبنت أصغرهم طفل لم يتجاوز عمره السنة، حيث كان عمر أبي صلاح قد قارب على الستين عاماً، فكان القرار أن يقيموا مؤقتا في القاهرة مصر، فقد كانت المدينة التي يزورونها للسياحة والترفية قبل النكبة.
قبل التهجير بساعات قليلة كانت نادية زوجة صلاح حريصة على نزع صورها هي حيث كانوا قد استلموا من استديو فينوس مجموعة من صور زفافهم وصورهم وهم في شهر العسل بعد تكبيرها ووضعها ضمن بروايز فضية.
وصلت العائلة إلى القاهرة بسلام، حيث قاموا بترتيبات شقة للإقامة لكل أفراد العائلة، وتوفير المستلزمات الضرورية، قرر صلاح الدين العودة إلى يافا لينضم لصفوف المناضلين مع صديقه من عائلة العيسوي، ودع عائلته واستقلا سيارة أجرة ليصلا إلى منطقة سيناء في مصر، كانا برفقة ركاب آخرين، وعند أحد المنعطفات الخطرة المشرفة على واد عميق، تدهورت السيارة في الوادي، أفاق والدي من غيبوبته فوجد السيارة وقد قلبت على عقبها على سفح المنحدر، وكل ركابها قد فارقوا الحياة بما فيهم صديقه ابن عائلة العيسوي، ووجد نفسه غارقاً بدمائه ودمائهم، حاول أن يصل إلى الطريق الرئيسي الصحراوي زحفاً، ويشير إلى المركبات المارة، حتى عاد إلى إغمائة ، أفاق منها فوجد نفسه في مستشفى عسكري في صحراء سيناء، تلقى العلاج اللازم بها ما يقارب الشهرين، وعند تماثله للشفاء عاد إلى القاهرة حيث أهله وعروسه وطفله الذي ينتظر نور الحياة، كانوا يحاولون ان يتشبثوا بأمل عودته، حيث لا خبر أتاهم من طرفه كل هذه المدة، حتى ظنوا أنه استشهد.
صبر أهله على غيابه، واستمر قلقهم حتى رأوه ماثلاً أمامهم يطرق باب البيت. بعد أشهر قليلة حان موعد قدوم الابن الأول لناديا وصلاح، اسمياه جهاد فأصبح أبو جهاد وأم جهاد يحملان حلم النضال والعودة حيث غرساه ورعياه في نفوس وعقول أطفالهم الستة، ثلاث أولاد وثلاثة بنات. حيث رحلوا وارتحلوا من بلد عربي إلى آخر، هجرة تلو هجرة بحثاً عن حياة كريمة.
درس صلاح الدين وتخصص في مجال «إدارة الأعمال» وكان يتقن اللغة الإنجليزية كما اللغة العربية، ساعده هذا ليعمل بمناصب عالية في عدة شركات في كل من الكويت وجدة، حيث كان عمله في جدة مدير شركة الجلاهمة المتخصصة بأثاث القصور، وفي فترة عمله عُرضت عليه الجنسية السعودية له ولأسرته لكنه رفض متمسكاً بجنسيته الفلسطينية وحلم العودة إلى يافا والمسمية، ثم عمل في شركة «ابكو»وكان مدير فرع للشركة في جدة متخصصة في بناء البنى التحتية لشبكة الهاتف في جدة وكافة المدن في السعودية.
خلال هذه السنوات أصبح لدى صلاح وناديا ست أطفال ثلاثة أولاد وثلاث بنات، هم جهاد وسلام وبشر ولدوا في القاهرة، سمر وأسامه ولدوا في الكويت ، هناء ولدت في جدة السعودية.
كان حلم صلاح وناديا أن يحصل أطفالهم الستة على أعلى درجات العلم مؤمنين بأن العلم والثقافة هما درب العودة إلى يافا وفلسطين، قد تحقق هذا خلال حياة حافلة بالعثرات، والعقبات وعذاب المرض والصراع لأجل التخلص منه، الحب الذي بدأ من النظرة الأولى بين صلاح وناديا واستمر حتى النظرة الأخيرة حين فارق صلاح الدين الرملي الحياة بين يدي ناديا عن عمر 54 سنة في اللاذقية/سوريا. تاركاً إرثاً كبيراً من الحب والولاء والوفاء والانتماء والعطاء والنقاء لأولاده وأحفاده من بعده. أصبح لصلاح وناديا ثمانية عشر حفيداً «ست حفيدات وأثنى عشرة حفيد»، وقد توزعوا وانتشروا في بقاع الأرض، وحصلوا على درجات عليا في التعليم ومراكز متقدمة في عملهم وعلى جنسيات أجنبية وعربية، ما بين كندا وايرلندا وأميركا والصين والأردن وسوريا والسعودية والإمارات.
أما كاتبة هذه الأسطر فهي ابنته الصُغرى "هناء صلاح الدين الرملي".