قصة‭ ‬حب‭ ‬جمعت‭ ‬مدينتين‭ ‬‮«‬يافا‭ ‬واللاذقية‮»‬


أنباء الوطن -

 

كتبت‭ : ‬هناء‭ ‬الرملي

قصة‭ ‬والدي‭ ‬ووالدتي‭ .. ‬‮«‬صلاح‭ ‬الدين‭ ‬الرملي،‭ ‬وناديا‭ ‬حاج‭ ‬قاسم‮»‬‭ ‬رحمهما‭ ‬الله‭ ‬

قصة‭ ‬ابتدأت‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬النكبة‭ ‬واستمرت‭ ‬بعد‭ ‬النكبة‭ ‬وفي‭ ‬دول‭ ‬الشتات‭ .. ‬ولن‭ ‬تنتهي‭ ..‬

كتبتها‭ ‬تلبية‭ ‬لطلب‭ ‬‮«‬وكالة‭ ‬الأنباء‭ ‬الفلسطينية‭- ‬وفا‮»‬‭ ..‬من‭ ‬الصحفي‭ ‬والكاتب‭ ‬يامن‭ ‬نوباني‭ ..‬

ليتم‭ ‬نشرها‭ ‬بعنوان‭:‬

العرس‭ ‬في‭ ‬يافا‭.. ‬والعروس‭ ‬من‭ ‬اللاذقية

- هو‭ ‬الابن‭ ‬البكر‭ ‬لأب‭ ‬عصامي،‭ ‬عاد‭ ‬أبوه‭ ‬‮«‬محمود‭ ‬حسن‭ ‬الرملي‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬يافا‭ ‬في‭ ‬مطلع‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬بعد‭ ‬رحلة‭ ‬طويلة‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬المهجر‭ ‬بين‭ ‬البرازيل‭ ‬والأرجنتين‭ ‬استمرت‭ ‬ما‭ ‬يقارب‭ ‬العشرين‭ ‬عاما،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬جمع‭ ‬ثروة‭ ‬من‭ ‬عمله‭ ‬بتجارة‭ ‬الجلود‭ ‬فيهما،‭ ‬وقد‭ ‬أخذ‭ ‬عهدا‭ ‬على‭ ‬نفسه‭ ‬بالعودة‭ ‬إلى‭ ‬يافا‭ ‬وترك‭ ‬بلاد‭ ‬المهجر،‭ ‬خوفا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يموت‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬فلسطين‭ ‬بعد‭ ‬مرضه‭ ‬بالتيفوئيد‭ ‬في‭ ‬الأرجنتين،‭ ‬ورقوده‭ ‬في‭ ‬المستشفى‭ ‬ما‭ ‬يزيد‭ ‬عن‭ ‬ثلاثة‭ ‬أشهر،‭ ‬وما‭ ‬إن‭ ‬منَّ‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬بالشفاء‭ ‬حتى‭ ‬جمع‭ ‬ثروته‭ ‬وعاد‭ ‬إلى‭ ‬يافا،‭ ‬ليتزوج‭ ‬بنت‭ ‬من‭ ‬عائلة‭ ‬يافية‭ ‬هي‭ ‬‮«‬فاطمة‭ ‬ديب‭ ‬بامية‮»‬‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1928،‭ ‬ويؤسس‭ ‬محلا‭ ‬تجاريا‭ ‬ومستودعات‭ ‬في‭ ‬سوق‭ ‬الصلاحي‭ ‬في‭ ‬يافا،‭ ‬حيث‭ ‬عمل‭ ‬في‭ ‬استيراد‭ ‬وتصدير‭ ‬الأغلال‭ ‬بين‭ ‬فلسطين‭ ‬وسوريا‭ ‬ولبنان‭ ‬ومصر،‭ ‬ويشتري‭ ‬منزلاً‭ ‬جميلا‭ ‬‮«‬في‭ ‬حي‭ ‬العجمي‭ ‬تلة‭ ‬العرقتنجي‭- ‬شارع‭ ‬عبد‭ ‬الرؤوف‭ ‬بيطار‭ ‬المقابل‭ ‬لكنيسة‭ ‬اللاتين‭ ‬وبجوار‭ ‬كنيسة‭ ‬البروتستانت‭ ‬ومقبرة‭ ‬الأرمن‭ ‬وخلف‭ ‬المستشفى‭ ‬الإنجليزي‮»‬،‭ ‬حيث‭ ‬شهد‭ ‬البيت‭ ‬حياة‭ ‬وافرة‭ ‬بالحب‭ ‬والعطاء‭ ‬والكرم،‭ ‬كما‭ ‬شهد‭ ‬ولادة‭ ‬سبع‭ ‬أطفال‭ ‬ستة‭ ‬أولاد‭ ‬وبنت‭ ‬هم‭ ‬‮«‬صلاح‭ ‬الدين،‭ ‬عماد‭ ‬الدين،‭ ‬نزار،‭ ‬مروان،‭ ‬عبيدة،‭ ‬حسان‭ ‬ومحمد‮»‬‭.‬

كان‭ ‬صلاح‭ ‬الدين‭ ‬الرملي‭ ‬هو‭ ‬باكورة‭ ‬هذه‭ ‬العائلة‭ ‬حيث‭ ‬ولد‭ ‬عام‭ ‬1929،‭ ‬ثم‭ ‬تبعه‭ ‬ثلاثة‭ ‬من‭ ‬إخوته‭.‬

كان‭ ‬أبو‭ ‬صلاح‭ ‬ابن‭ ‬عائلة‭ ‬تنتمي‭ ‬وتقيم‭ ‬في‭ ‬قرية‭ ‬المسمية‭ ‬الكبيرة‭ ‬والتي‭ ‬تبعد‭ ‬35‭ ‬كيلو‭ ‬متر‭ ‬عن‭ ‬يافا‭. ‬وقد‭ ‬أرسله‭ ‬والده‭ ‬ليقيم‭ ‬في‭ ‬يافا‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬سن‭ ‬صغيرة‭ ‬ليكمل‭ ‬تعليمه‭ ‬المدرسي‭ ‬ويعمل‭ ‬بها،‭ ‬لما‭ ‬وجدوا‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬رغبةً‭ ‬في‭ ‬العلم‭ ‬وطموحاً‭ ‬لا‭ ‬حدود‭ ‬له‭. ‬فنشأ‭ ‬ابنه‭ ‬صلاح‭ ‬الدين‭ ‬على‭ ‬حب‭ ‬يافا‭ ‬وحياة‭ ‬المدينة‭ ‬فيها‭ ‬والانتماء‭ ‬لقريته‭ ‬‮«‬المسمية‭ ‬الكبيرة‮»‬‭ ‬وأهلها،‭ ‬والحياة‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬الإجازات‭ ‬الصيفية‭ ‬وإجازة‭ ‬نهاية‭ ‬أسبوع،‭ ‬حيث‭ ‬سعى‭ ‬والده‭ ‬على‭ ‬توطيد‭ ‬علاقاته‭ ‬وأبنائه‭ ‬بأهل‭ ‬القرية‭ ‬والمدينة‭ ‬على‭ ‬السواء،‭ ‬كما‭ ‬سعى‭ ‬لامتلاك‭ ‬بيارة‭ ‬برتقال‭ ‬كبيرة‭ ‬المساحة‭ ‬وبنى‭ ‬عليها‭ ‬بيتهم‭ ‬الصيفي‭. ‬وكان‭ ‬يستقبل‭ ‬أبناء‭ ‬قريته‭ ‬بكل‭ ‬كرم‭ ‬الضيافة‭ ‬عند‭ ‬زيارتهم‭ ‬ليافا‭ ‬ويفرد‭ ‬غرفة‭ ‬ضيافة‭ ‬في‭ ‬بيته‭ ‬الكبير‭ ‬في‭ ‬العجمي‭ ‬لهم‭.‬

درس‭ ‬صلاح‭ ‬الدين‭ ‬في‭ ‬مدرسة‭ ‬الفرير‭ ‬هو‭ ‬وإخوته،‭ ‬وكان‭ ‬لدى‭ ‬صلاح‭ ‬الدين‭ ‬شغف‭ ‬كبير‭ ‬بالقراءة،‭ ‬فلم‭ ‬يكن‭ ‬أي‭ ‬كتاب‭ ‬يقع‭ ‬بين‭ ‬يديه‭ ‬حتى‭ ‬يفرغ‭ ‬من‭ ‬قراءته‭ ‬بعد‭ ‬ساعات‭ ‬قليلة‭ ‬ليبدأ‭ ‬بغيره‭. ‬كان‭ ‬مهتما‭ ‬باللغات‭ ‬والفنون‭ ‬والسينما‭ ‬والمسرح‭ ‬ويسعى‭ ‬لحضور‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يستجد‭ ‬منها‭ ‬في‭ ‬سينما‭ ‬الحمرا،‭ ‬سواء‭ ‬أفلام‭ ‬أو‭ ‬حفلات‭ ‬غنائية‭ ‬وموسيقية‭ ‬وعروض‭ ‬مسرحية‭.‬

في‭ ‬عام‭ ‬1947‭ ‬عند‭ ‬بلوغ‭ ‬صلاح‭ ‬الدين‭ ‬سن‭ ‬18‭ ‬سنة‭ ‬قرر‭ ‬والداه‭ ‬تزويجه‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬شابا‭ ‬وسيماً‭ ‬ملفتا‭ ‬للانتباه‭ ‬بقامته‭ ‬الطويلة‭ ‬وبرشاقته‭ ‬وملامحه‭ ‬البريئة‭ ‬والجذابة،‭ ‬فقد‭ ‬خافوا‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬الفتنة‭ ‬والإغواء‭ ‬كون‭ ‬يافا‭ ‬مجاورة‭ ‬لمدينة‭ ‬تل‭ ‬أبيب‭ ‬الحافلة‭ ‬بالفتيات‭ ‬اليهوديات‭ ‬الأجنبيات‭ ‬القادمات‭ ‬من‭ ‬أوروبا‭ ‬وأمريكا،‭ ‬فكانت‭ ‬والدته‭ ‬تسعى‭ ‬وتسأل‭ ‬عن‭ ‬‮«‬بنت‭ ‬الحلال‮»‬‭ ‬المناسبة‭ ‬لتزوجه‭.‬

كعادة‭ ‬سيدات‭ ‬يافا‭ ‬قبل‭ ‬نكبة‭ ‬1948‭ ‬في‭ ‬إقامة‭ ‬إستقبالات‭ ‬إجتماعية‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬العصر،‭ ‬حيث‭ ‬تعتمد‭ ‬كل‭ ‬سيدة‭ ‬يوما‭ ‬لها‭ ‬ليكون‭ ‬صالونها‭ ‬الأسبوعي،‭ ‬أو‭ ‬مايسمى‭ ‬‮«‬الاستقبال‮»‬،‭ ‬يلتقين‭ ‬للحديث‭ ‬والترويح‭ ‬عن‭ ‬أنفسهن،‭ ‬والتعارف‭ ‬فيما‭ ‬بينهن،‭ ‬والبحث‭ ‬عن‭ ‬عروس‭ ‬لكل‭ ‬شاب‭ ‬اصبح‭ ‬في‭ ‬سن‭ ‬الزواج،‭ ‬و‭ ‬ذات‭ ‬لقاء‭ ‬سألت‭ ‬أم‭ ‬صلاح‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬صالون‭ ‬بيت‭ ‬أختها‭ ‬‮«‬حسيبة‭ ‬ديب‭ ‬بامية‮»‬‭ ‬ولقبها‭ ‬‮«‬أم‭ ‬شكري‭ ‬جبر‮»‬‭ ‬عن‭ ‬بنت‭ ‬حلال‭ ‬مناسبة‭ ‬لابنها‭ ‬البكر،‭ ‬فكان‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬السيدات‭ ‬الضيوف‭ ‬السيدة‭ ‬أم‭ ‬غسان‭ ‬كنفاني،‭ ‬وهي‭ ‬جارة‭ ‬‮«‬أم‭ ‬شكري‮»‬‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬المبنى‭ ‬حيث‭ ‬أقامت‭ ‬عائلة‭ ‬غسان‭ ‬كنفاني‭ ‬في‭ ‬يافا‭ ‬عدة‭ ‬سنوات‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬في‭ ‬حي‭ ‬المنشية‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬مسجد‭ ‬حسن‭ ‬بيك‭.‬

أشارت‭ ‬أم‭ ‬غسان‭ ‬كنفاني‭ ‬على‭ ‬أم‭ ‬صلاح‭ ‬ورجحت‭ ‬لها‭ ‬صبية‭ ‬في‭ ‬سن‭ ‬الزواج‭ ‬تدعى‭ ‬‮«‬ناديا‭ ‬حاج‭ ‬قاسم‮»‬‭ ‬وهي‭ ‬ابنة‭ ‬لعائلة‭ ‬سورية‭ ‬مقيمة‭ ‬في‭ ‬يافا‭ ‬منذ‭ ‬سنوات‭ ‬طويلة،‭ ‬الطالبة‭ ‬في‭ ‬مدرسة‭ ‬الزهراء‭ ‬والابنة‭ ‬الرابعة‭ ‬لأهلها‭ ‬حيث‭ ‬تزوجن‭ ‬أخواتها‭ ‬من‭ ‬عائلات‭ ‬يافية‭ ‬‮«‬شعبان‭ ‬وزعبلاوي‭ ‬وخلف‮»‬‭. ‬ولديهم‭ ‬سمعة‭ ‬وخلق‭ ‬يشهد‭ ‬لهم‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬عرفهم‭ ‬في‭ ‬يافا‭ ‬وسوريا‭.‬

كانت‭ ‬أم‭ ‬غسان‭ ‬كنفاني‭ ‬بحكم‭ ‬الجيرة‭ ‬صديقة‭ ‬وجارة‭ ‬لهذه‭ ‬العائلة‭ ‬السورية‭ ‬‮«‬حاج‭ ‬قاسم‮»‬‭ ‬التي‭ ‬حضرت‭ ‬من‭ ‬شمال‭ ‬الساحل‭ ‬السوري‭ ‬‮«‬اللاذقية‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬يافا‭ ‬في‭ ‬في‭ ‬ثلاثينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬وأقامت‭ ‬فيها،‭ ‬حيث‭ ‬أسس‭ ‬الوالد‭ ‬‮«‬أحمد‭ ‬حاج‭ ‬قاسم‮»‬‭ ‬مشروعاً‭ ‬تجارياً‭ ‬لاقى‭ ‬رواجا‭ ‬كبيراً‭ ‬ونجاحا‭ ‬فائقا‭ ‬وهو‭ ‬مشغل‭ ‬خياطة‭ ‬للبدلات‭ ‬الرجالية‭ ‬محضراً‭ ‬عدة‭ ‬خياطين‭ ‬من‭ ‬سوريا،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬معروفا‭ ‬عن‭ ‬أهل‭ ‬يافا‭ ‬من‭ ‬نساء‭ ‬ورجال‭ ‬حبهم‭ ‬للأناقة‭ ‬والمظهر‭ ‬الجميل‭ ‬اللائق‭.‬

وقد‭ ‬طور‭ ‬أحمد‭ ‬حاج‭ ‬قاسم‭ ‬أعماله‭ ‬فأسس‭ ‬محل‭ ‬للحلويات‭ ‬العربية‭ ‬وأحضر‭ ‬معلمين‭ ‬في‭ ‬صناعة‭ ‬الحلويات‭ ‬العربية‭ ‬الشامية‭ ‬من‭ ‬اللاذقية،‭ ‬وكان‭ ‬المحل‭ ‬مشهور‭ ‬بحلويات‭ ‬لاذقانية‭ ‬خاصة‭ ‬بمدينة‭ ‬اللاذقية‭ ‬فقط‭ ‬كالجزرية‭ ‬واللوزينا‭ ‬وغيرها‭.‬

أخبرت‭ ‬أم‭ ‬صلاح‭ ‬زوجها‭ ‬أنها‭ ‬وجدت‭ ‬العروس‭ ‬المناسبة‭ ‬لابنهم‭ ‬صلاح،‭ ‬بنصيحة‭ ‬وتوجيه‭ ‬من‭ ‬أم‭ ‬غسان‭ ‬كنفاني،‭ ‬وحدثته‭ ‬عن‭ ‬عائلة‭ ‬حاج‭ ‬قاسم‭ ‬السورية‭ ‬الأصل،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬لدى‭ ‬أهل‭ ‬يافا‭ ‬أي‭ ‬تمييز‭ ‬بين‭ ‬العائلات‭ ‬اليافاية‭ ‬وبين‭ ‬أي‭ ‬عائلة‭ ‬قادمة‭ ‬من‭ ‬الخارج،‭ ‬كانت‭ ‬الانسانية‭ ‬والأخلاق‭ ‬الطيبة‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬الناس،‭ ‬وشعور‭ ‬الرابط‭ ‬والانتماء‭ ‬لبلاد‭ ‬الشام‭ ‬هو‭ ‬السائد‭ ‬حينها‭ ‬بين‭ ‬أهل‭ ‬يافا،‭ ‬حيث‭ ‬ضمت‭ ‬يافا‭ ‬عائلات‭ ‬سورية‭ ‬ولبنانية‭ ‬قدموا‭ ‬على‭ ‬نفس‭ ‬الساحل‭ ‬المطل‭ ‬على‭ ‬البحر‭ ‬الابيض‭ ‬المتوسط‭ ‬،‭ ‬ينتمون‭ ‬لذات‭ ‬البحر‭ ‬وذات‭ ‬الأرض‭.‬

وتمت‭ ‬إجراءات‭ ‬طلب‭ ‬العروس‭ ‬بالطرق‭ ‬المتعارف‭ ‬عليها‭ ‬زيارة‭ ‬أبو‭ ‬صلاح‭ ‬وام‭ ‬صلاح‭ ‬وصلاح‭ ‬لبيت‭ ‬أهل‭ ‬العروس‭ ‬في‭ ‬حي‭ ‬المنشية‭ ‬بعد‭ ‬أخذ‭ ‬موعد‭ ‬مسبق،‭ ‬اللقاء‭ ‬الأول‭ ‬والتعارف‭ ‬وطلب‭ ‬يد‭ ‬العروس‭.‬

كانت‭ ‬ناديا‭ ‬حاج‭ ‬قاسم‭ ‬مواليد‭ ‬1932‭ .. ‬وكانت‭ ‬حينها‭ ‬بعمر‭ ‬15‭ ‬عاما،‭ ‬ناديا‭ ‬الفتاة‭ ‬النحيلة‭ ‬السمراء‭ ‬ذت‭ ‬الملامح‭ ‬الشرقية‭ ‬الجذابة‭ ‬والروح‭ ‬الجميلة،‭ ‬فتاة‭ ‬ذكية‭ ‬كلها‭ ‬طاقة‭ ‬وحيوية،‭ ‬محبة‭ ‬للجمال‭ ‬والحياة‭ ‬والقراءة،‭ ‬كانت‭ ‬تتابع‭ ‬وتقرأ‭ ‬المجلات‭ ‬والصحف‭ ‬وتشاهد‭ ‬صور‭ ‬الملوك‭ ‬والأمراء‭ ‬في‭ ‬دول‭ ‬العالم،‭ ‬لفت‭ ‬انتباهها‭ ‬جمال‭ ‬شاه‭ ‬ايران‭ ‬في‭ ‬شبابه،‭ ‬تشكلت‭ ‬ملامح‭ ‬فارس‭ ‬أحلامها‭ ‬في‭ ‬خيالها‭ ‬بمقاييس‭ ‬جمال‭ ‬شاه‭ ‬إيران،‭ ‬حتى‭ ‬تحقق‭ ‬حلمها‭ ‬ولم‭ ‬تصدق‭ ‬ما‭ ‬رأت‭ ‬حين‭ ‬وجدت‭ ‬عريسها‭ ‬الشاب‭ ‬صلاح‭ ‬الدين‭ ‬الرملي‭ ‬يشبهه‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يفقه‭ ‬جمالا‭.‬

كان‭ ‬حفل‭ ‬الزفاف‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬عام‭ ‬1947،‭ ‬ثم‭ ‬أقام‭ ‬العروسين‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬أبو‭ ‬صلاح‭ ‬في‭ ‬حي‭ ‬العجمي‭ ‬تلة‭ ‬العرقتنجي،‭ ‬وكانت‭ ‬إقامتهم‭ ‬مع‭ ‬الأهل‭ ‬مؤقتة‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬أبو‭ ‬صلاح‭ ‬الرملي‭ ‬قد‭ ‬باشر‭ ‬ببناء‭ ‬عمارة‭ ‬في‭ ‬حي‭ ‬العجمي‭ ‬من‭ ‬ثلاث‭ ‬طوابق‭ ‬ليكون‭ ‬لكل‭ ‬ابن‭ ‬من‭ ‬أبنائه‭ ‬الشباب‭ ‬بيته‭ ‬الخاص‭.‬

خلال‭ ‬أشهر‭ ‬قليلة‭ ‬من‭ ‬الزواج‭ ‬أتى‭ ‬خبر‭ ‬حمل‭ ‬ناديا‭ ‬بالحفيد‭ ‬الأول‭ ‬للعائلة،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬للفرح‭ ‬متسع‭ ‬لديهم،‭ ‬لكن‭ ‬قدر‭ ‬لهذا‭ ‬الفرح‭ ‬أن‭ ‬يدمر،‭ ‬حين‭ ‬أعلنت‭ ‬الحرب‭ ‬في‭ ‬يافا‭ ‬وبدأت‭ ‬المجازر‭ ‬وتهديد‭ ‬العائلات‭ ‬بالقتل،‭ ‬وطلب‭ ‬من‭ ‬رجال‭ ‬يافا‭ ‬أن‭ ‬يسعوا‭ ‬لنقل‭ ‬أفراد‭ ‬عائلاتهم‭ ‬من‭ ‬نساء‭ ‬وبنات‭ ‬ومسنين‭ ‬وأطفال،‭ ‬حتى‭ ‬تنتهي‭ ‬الحرب‭ ‬ليعودوا‭ ‬مجددا‭ ‬إلى‭ ‬يافا‭ ‬كي‭ ‬يحموهم‭ ‬من‭ ‬جرائم‭ ‬القتل‭ ‬والاغتصاب،‭ ‬فكانت‭ ‬العائلة‭ ‬التي‭ ‬يكبرها‭ ‬صلاح‭ ‬والمكونة‭ ‬من‭ ‬أبو‭ ‬صلاح‭ ‬وأم‭ ‬صلاح‭ ‬وزوجته‭ ‬و‭ ‬خمسة‭ ‬أولاد‭ ‬وبنت‭ ‬أصغرهم‭ ‬طفل‭ ‬لم‭ ‬يتجاوز‭ ‬عمره‭ ‬السنة،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬عمر‭ ‬أبي‭ ‬صلاح‭ ‬قد‭ ‬قارب‭ ‬على‭ ‬الستين‭ ‬عاماً،‭ ‬فكان‭ ‬القرار‭ ‬أن‭ ‬يقيموا‭ ‬مؤقتا‭ ‬في‭ ‬القاهرة‭ ‬مصر،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬المدينة‭ ‬التي‭ ‬يزورونها‭ ‬للسياحة‭ ‬والترفية‭ ‬قبل‭ ‬النكبة‭.‬

قبل‭ ‬التهجير‭ ‬بساعات‭ ‬قليلة‭ ‬كانت‭ ‬نادية‭ ‬زوجة‭ ‬صلاح‭ ‬حريصة‭ ‬على‭ ‬نزع‭ ‬صورها‭ ‬هي‭ ‬حيث‭ ‬كانوا‭ ‬قد‭ ‬استلموا‭ ‬من‭ ‬استديو‭ ‬فينوس‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬صور‭ ‬زفافهم‭ ‬وصورهم‭ ‬وهم‭ ‬في‭ ‬شهر‭ ‬العسل‭ ‬بعد‭ ‬تكبيرها‭ ‬ووضعها‭ ‬ضمن‭ ‬بروايز‭ ‬فضية‭.‬

وصلت‭ ‬العائلة‭ ‬إلى‭ ‬القاهرة‭ ‬بسلام،‭ ‬حيث‭ ‬قاموا‭ ‬بترتيبات‭ ‬شقة‭ ‬للإقامة‭ ‬لكل‭ ‬أفراد‭ ‬العائلة،‭ ‬وتوفير‭ ‬المستلزمات‭ ‬الضرورية،‭ ‬قرر‭ ‬صلاح‭ ‬الدين‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬يافا‭ ‬لينضم‭ ‬لصفوف‭ ‬المناضلين‭ ‬مع‭ ‬صديقه‭ ‬من‭ ‬عائلة‭ ‬العيسوي،‭ ‬ودع‭ ‬عائلته‭ ‬واستقلا‭ ‬سيارة‭ ‬أجرة‭ ‬ليصلا‭ ‬إلى‭ ‬منطقة‭ ‬سيناء‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬كانا‭ ‬برفقة‭ ‬ركاب‭ ‬آخرين،‭ ‬وعند‭ ‬أحد‭ ‬المنعطفات‭ ‬الخطرة‭ ‬المشرفة‭ ‬على‭ ‬واد‭ ‬عميق،‭ ‬تدهورت‭ ‬السيارة‭ ‬في‭ ‬الوادي،‭ ‬أفاق‭ ‬والدي‭ ‬من‭ ‬غيبوبته‭ ‬فوجد‭ ‬السيارة‭ ‬وقد‭ ‬قلبت‭ ‬على‭ ‬عقبها‭ ‬على‭ ‬سفح‭ ‬المنحدر،‭ ‬وكل‭ ‬ركابها‭ ‬قد‭ ‬فارقوا‭ ‬الحياة‭ ‬بما‭ ‬فيهم‭ ‬صديقه‭ ‬ابن‭ ‬عائلة‭ ‬العيسوي،‭ ‬ووجد‭ ‬نفسه‭ ‬غارقاً‭ ‬بدمائه‭ ‬ودمائهم،‭ ‬حاول‭ ‬أن‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬الطريق‭ ‬الرئيسي‭ ‬الصحراوي‭ ‬زحفاً،‭ ‬ويشير‭ ‬إلى‭ ‬المركبات‭ ‬المارة،‭ ‬حتى‭ ‬عاد‭ ‬إلى‭ ‬إغمائة‭ ‬،‭ ‬أفاق‭ ‬منها‭ ‬فوجد‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬مستشفى‭ ‬عسكري‭ ‬في‭ ‬صحراء‭ ‬سيناء،‭ ‬تلقى‭ ‬العلاج‭ ‬اللازم‭ ‬بها‭ ‬ما‭ ‬يقارب‭ ‬الشهرين،‭ ‬وعند‭ ‬تماثله‭ ‬للشفاء‭ ‬عاد‭ ‬إلى‭ ‬القاهرة‭ ‬حيث‭ ‬أهله‭ ‬وعروسه‭ ‬وطفله‭ ‬الذي‭ ‬ينتظر‭ ‬نور‭ ‬الحياة،‭ ‬كانوا‭ ‬يحاولون‭ ‬ان‭ ‬يتشبثوا‭ ‬بأمل‭ ‬عودته،‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬خبر‭ ‬أتاهم‭ ‬من‭ ‬طرفه‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬المدة،‭ ‬حتى‭ ‬ظنوا‭ ‬أنه‭ ‬استشهد‭.‬

صبر‭ ‬أهله‭ ‬على‭ ‬غيابه،‭ ‬واستمر‭ ‬قلقهم‭ ‬حتى‭ ‬رأوه‭ ‬ماثلاً‭ ‬أمامهم‭ ‬يطرق‭ ‬باب‭ ‬البيت‭. ‬بعد‭ ‬أشهر‭ ‬قليلة‭ ‬حان‭ ‬موعد‭ ‬قدوم‭ ‬الابن‭ ‬الأول‭ ‬لناديا‭ ‬وصلاح،‭ ‬اسمياه‭ ‬جهاد‭ ‬فأصبح‭ ‬أبو‭ ‬جهاد‭ ‬وأم‭ ‬جهاد‭ ‬يحملان‭ ‬حلم‭ ‬النضال‭ ‬والعودة‭ ‬حيث‭ ‬غرساه‭ ‬ورعياه‭ ‬في‭ ‬نفوس‭ ‬وعقول‭ ‬أطفالهم‭ ‬الستة،‭ ‬ثلاث‭ ‬أولاد‭ ‬وثلاثة‭ ‬بنات‭. ‬حيث‭ ‬رحلوا‭ ‬وارتحلوا‭ ‬من‭ ‬بلد‭ ‬عربي‭ ‬إلى‭ ‬آخر،‭ ‬هجرة‭ ‬تلو‭ ‬هجرة‭ ‬بحثاً‭ ‬عن‭ ‬حياة‭ ‬كريمة‭.‬

درس‭ ‬صلاح‭ ‬الدين‭ ‬وتخصص‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬‮«‬إدارة‭ ‬الأعمال‮»‬‭ ‬وكان‭ ‬يتقن‭ ‬اللغة‭ ‬الإنجليزية‭ ‬كما‭ ‬اللغة‭ ‬العربية،‭ ‬ساعده‭ ‬هذا‭ ‬ليعمل‭ ‬بمناصب‭ ‬عالية‭ ‬في‭ ‬عدة‭ ‬شركات‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬الكويت‭ ‬وجدة،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬عمله‭ ‬في‭ ‬جدة‭ ‬مدير‭ ‬شركة‭ ‬الجلاهمة‭ ‬المتخصصة‭ ‬بأثاث‭ ‬القصور،‭ ‬وفي‭ ‬فترة‭ ‬عمله‭ ‬عُرضت‭ ‬عليه‭ ‬الجنسية‭ ‬السعودية‭ ‬له‭ ‬ولأسرته‭ ‬لكنه‭ ‬رفض‭ ‬متمسكاً‭ ‬بجنسيته‭ ‬الفلسطينية‭ ‬وحلم‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬يافا‭ ‬والمسمية،‭ ‬ثم‭ ‬عمل‭ ‬في‭ ‬شركة‭ ‬‮«‬ابكو»وكان‭ ‬مدير‭ ‬فرع‭ ‬للشركة‭ ‬في‭ ‬جدة‭ ‬متخصصة‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬البنى‭ ‬التحتية‭ ‬لشبكة‭ ‬الهاتف‭ ‬في‭ ‬جدة‭ ‬وكافة‭ ‬المدن‭ ‬في‭ ‬السعودية‭.‬

خلال‭ ‬هذه‭ ‬السنوات‭ ‬أصبح‭ ‬لدى‭ ‬صلاح‭ ‬وناديا‭ ‬ست‭ ‬أطفال‭ ‬ثلاثة‭ ‬أولاد‭ ‬وثلاث‭ ‬بنات،‭ ‬هم‭ ‬جهاد‭ ‬وسلام‭ ‬وبشر‭ ‬ولدوا‭ ‬في‭ ‬القاهرة،‭ ‬سمر‭ ‬وأسامه‭ ‬ولدوا‭ ‬في‭ ‬الكويت‭ ‬،‭ ‬هناء‭ ‬ولدت‭ ‬في‭ ‬جدة‭ ‬السعودية‭.‬

كان‭ ‬حلم‭ ‬صلاح‭ ‬وناديا‭ ‬أن‭ ‬يحصل‭ ‬أطفالهم‭ ‬الستة‭ ‬على‭ ‬أعلى‭ ‬درجات‭ ‬العلم‭ ‬مؤمنين‭ ‬بأن‭ ‬العلم‭ ‬والثقافة‭ ‬هما‭ ‬درب‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬يافا‭ ‬وفلسطين،‭ ‬قد‭ ‬تحقق‭ ‬هذا‭ ‬خلال‭ ‬حياة‭ ‬حافلة‭ ‬بالعثرات،‭ ‬والعقبات‭ ‬وعذاب‭ ‬المرض‭ ‬والصراع‭ ‬لأجل‭ ‬التخلص‭ ‬منه،‭ ‬الحب‭ ‬الذي‭ ‬بدأ‭ ‬من‭ ‬النظرة‭ ‬الأولى‭ ‬بين‭ ‬صلاح‭ ‬وناديا‭ ‬واستمر‭ ‬حتى‭ ‬النظرة‭ ‬الأخيرة‭ ‬حين‭ ‬فارق‭ ‬صلاح‭ ‬الدين‭ ‬الرملي‭ ‬الحياة‭ ‬بين‭ ‬يدي‭ ‬ناديا‭ ‬عن‭ ‬عمر‭ ‬54‭ ‬سنة‭ ‬في‭ ‬اللاذقية‭/‬سوريا‭. ‬تاركاً‭ ‬إرثاً‭ ‬كبيراً‭ ‬من‭ ‬الحب‭ ‬والولاء‭ ‬والوفاء‭ ‬والانتماء‭ ‬والعطاء‭ ‬والنقاء‭ ‬لأولاده‭ ‬وأحفاده‭ ‬من‭ ‬بعده‭. ‬أصبح‭ ‬لصلاح‭ ‬وناديا‭ ‬ثمانية‭ ‬عشر‭ ‬حفيداً‭ ‬‮«‬ست‭ ‬حفيدات‭ ‬وأثنى‭ ‬عشرة‭ ‬حفيد‮»‬،‭ ‬وقد‭ ‬توزعوا‭ ‬وانتشروا‭ ‬في‭ ‬بقاع‭ ‬الأرض،‭ ‬وحصلوا‭ ‬على‭ ‬درجات‭ ‬عليا‭ ‬في‭ ‬التعليم‭ ‬ومراكز‭ ‬متقدمة‭ ‬في‭ ‬عملهم‭ ‬وعلى‭ ‬جنسيات‭ ‬أجنبية‭ ‬وعربية،‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬كندا‭ ‬وايرلندا‭ ‬وأميركا‭ ‬والصين‭ ‬والأردن‭ ‬وسوريا‭ ‬والسعودية‭ ‬والإمارات‭.‬

أما‭ ‬كاتبة‭ ‬هذه‭ ‬الأسطر‭ ‬فهي‭ ‬ابنته‭ ‬الصُغرى‭ "‬هناء‭ ‬صلاح‭ ‬الدين‭ ‬الرملي"‭.‬