عبقريّة‭ ‬الفــقر


أنباء الوطن -

 

كتب‭ - ‬فـاروق‭ ‬وادي

‭- ‬الفتى‭ ‬الأسمر‭ ‬الذي‭ ‬أوقفني‭ ‬في‭ ‬الزحام‭ ‬على‭ ‬كورنيش‭ ‬البحر‭ ‬في‭ ‬الاسكندرية،‭ ‬كان‭ ‬يروِّج‭ ‬لبضاعة‭ ‬فريدة‭ ‬من‭ ‬نوعها‭: ‬

‭_ ‬تشتري‭ ‬نكته‭ ‬يا‭ ‬بيه؟

بالتأكيد،‭ ‬كان‭ ‬عليّ‭ ‬أن‭ ‬اشتري‭ ‬دون‭ ‬تردد،‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬الفضول‭ ‬فحسب،‭ ‬وإنما‭ ‬إعجاباً‭ ‬بالفكرة،‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬النكات‭ ‬التي‭ ‬انفرطت‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬الفتى،‭ ‬كانت‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬النوع‭ ‬الاستهلاكي‭ ‬التي‭ ‬تضحك‭ ‬على‭ ‬صعيدي‭ ‬نسي‭ ‬حتّى‭ ‬اسمه‭..‬

الفتى‭ ‬العبقري‭ ‬الأسمر،‭ ‬أعاد‭ ‬إلى‭ ‬الذاكرة‭ ‬ريبورتاجاً‭ ‬مصوّراً‭ ‬نشرته‭ ‬صحيفة‭ ‬عربية‭ ‬أواخر‭ ‬السبعينيات،‭ ‬حين‭ ‬شنّت‭ ‬السلطات‭ ‬المصرية،‭ ‬آنذاك،‭ ‬حملة‭ ‬شعواء‭ ‬على‭ ‬الفئران‭ ‬التي‭ ‬باتت‭ ‬تتهدد‭ ‬مصر‭ ‬المحروسة،‭ ‬فتنذرها‭ ‬مما‭ ‬أصاب‭ ‬وهران‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬ألبيركامو‭ ‬‮«‬‭ ‬الطاعون‮»‬‭.‬

كانت‭ ‬السلطات‭ ‬المصرية،‭ ‬وأمام‭ ‬غزو‭ ‬جحافل‭ ‬الفئران،‭ ‬بنذرها‭ ‬المشؤومة،‭ ‬لشوارع‭ ‬العاصمة‭ ‬والمدن‭ ‬المصرية‭ ‬الأُخرى،‭ ‬قد‭ ‬توصّلت‭ ‬إلى‭ ‬اقتراح‭ ‬يقضي‭ ‬بتقديم‭ ‬جائزة‭ ‬نقدية‭ ‬محدّدة‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬فأر‭ ‬يتم‭ ‬اصطياده‭ ‬والإتيان‭ ‬به‭.. ‬حياً‭ ‬أو‭ ‬ميتاً‭!‬

وقد‭ ‬انهمك‭ ‬فقراء‭ ‬المواطنين،‭ ‬وجيوش‭ ‬العاطلين‭ ‬عن‭ ‬العمل،‭ ‬بكل‭ ‬جهودهم‭ ‬وطاقاتهم،‭ ‬في‭ ‬العمليات‭ ‬الواسعة‭ ‬التي‭ ‬هدفت‭ ‬إلى‭ ‬اصطياد‭ ‬الفئران،‭ ‬التي‭ ‬كفّت‭ ‬بعد‭ ‬حين‭ ‬من‭ ‬الوقت‭ ‬عن‭ ‬السّرحان‭ ‬في‭ ‬الشوارع‭ ‬والأزقة‭ ‬بأعداد‭ ‬غفيرة‭.‬

وعندما‭ ‬أصبحت‭ ‬الفئران‭ ‬كائنات‭ ‬نادرة،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬مهمة‭ ‬الحصول‭ ‬عليها‭ ‬باتت‭ ‬صعبة‭.. ‬حتى‭ ‬على‭ ‬الذين‭ ‬احترفوا‭ ‬صيدها،‭ ‬تفتقت‭ ‬عبقرية‭ ‬الفقر‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬عن‭ ‬فكرة‭ ‬الاكتفاء‭ ‬باصطياد‭ ‬ذكر‭ ‬وأنثى،‭ ‬وتوفير‭ ‬الشروط‭ ‬الملائمة‭ ‬لها‭ ‬للإخصاب‭ ‬والتكاثر‭ ‬في‭ ‬الأقفاص‭ ‬المنزلية‭ ‬الخاصة،‭ ‬حتى‭ ‬يكون‭ ‬بإمكان‭ ‬ممتهني‭ ‬تربيتها‭ ‬تسويق‭ ‬أبنائها‭ ‬وأحفادها‭ ‬إلى‭ ‬الدولة،‭ ‬بهدف‭ ‬جني‭ ‬المبالغ‭ ‬المرصودة‭ ‬لهذه‭ ‬الغاية‭. ‬وبذلك‭ ‬استثمر‭ ‬العقل‭ ‬الاقتصادي‭ ‬للفقراء‭ ‬تلك‭ ‬المسألة‭ ‬الفئرانية‭ ‬لصالحه‭.‬

ومنذ‭ ‬سنوات‭ ‬قليلة،‭ ‬ذكرت‭ ‬الصحف‭ ‬المصرية،‭ ‬في‭ ‬خبر‭ ‬بثته‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬الطرفة،‭ ‬أن‭ ‬قاضي‭ ‬الأحوال‭ ‬الشخصية‭ ‬في‭ ‬القاهرة‭ ‬أُصيب‭ ‬بالدهشة‭ ‬لرفض‭ ‬سيدة‭ ‬مصرية‭ ‬أميّة‭ ‬تحديد‭ ‬المبلغ‭ ‬الذي‭ ‬تطلبه‭ ‬كنفقة‭ ‬من‭ ‬زوجها‭ ‬الذي‭ ‬هجرها‭ ‬وأطفالها،‭ ‬وإصرارها‭ ‬على‭ ‬المطالبة‭ ‬بصرف‭ ‬نفقة‭ ‬عينية‭ ‬تتكوّن‭ ‬شهرياً‭ ‬من‭ ‬مقادير‭ ‬من‭ ‬اللحوم‭ ‬والحبوب‭ ‬والسكّر‭ ‬والخبز،‭ ‬حدّدتها‭ ‬السيدة‭ ‬بدقة،‭ ‬إذ‭ ‬أدركت‭ ‬بحسها‭ ‬الشعبي‭ ‬البسيط،‭ ‬أن‭ ‬التضخم‭ ‬النقدي‭ ‬والغلاء‭ ‬المتواصل،‭ ‬سوف‭ ‬يجعلان‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬مبلغ‭ ‬تطلبه‭ ‬محدود‭ ‬الفائدة‭ ‬في‭ ‬المدى‭ ‬المنظور‭ ‬أو‭ ‬البعيد،‭ ‬مما‭ ‬يفقده‭ ‬قيمته‭ ‬كضمانة‭ ‬مستقبلية‭ ‬لها‭ ‬ولأولادها،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬يظل‭ ‬يتوافر‭ ‬قدر‭ ‬من‭ ‬الضمان‭ ‬المطلوب‭ ‬في‭ ‬المواد‭ ‬العينية‭.‬

لم‭ ‬تثر‭ ‬تلك‭ ‬السيدة‭ ‬دهشة‭ ‬القاضي‭ ‬فحسب،‭ ‬وإنما‭ ‬أيضاً‭ ‬دهشة‭ ‬الخبراء‭ ‬والباحثين‭ ‬الاقتصاديين،‭ ‬وكانت‭ ‬حكمتها‭ ‬الاقتصادية‭ ‬منطلقاً‭ ‬لدراسة‭ ‬حول‭ ‬التضخم‭ ‬وغول‭ ‬الغلاء‭ ‬قدّمها‭ ‬الباحث‭ ‬الاقتصادي‭ ‬المتميّز‭ ‬الراحل‭ ‬الدكتور‭ ‬رمزي‭ ‬زكي‭.‬

والسؤال‭ ‬هو‭: ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬يعنيه‭ ‬كل‭ ‬ذلك؟‭ ‬هل‭ ‬يعني‭ ‬أننا‭ ‬بتنا‭ ‬نقف‭ ‬أمام‭ ‬ظاهرة‭ ‬اجتماعية‭ ‬جديدة‭ ‬وجديرة‭ ‬بالدراسة،‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نطلق‭ ‬عليها‭ ‬تعبير‭ ‬‮«‬عبقرية‭ ‬الفقر»؟‭.‬

و‭ ‬هل‭ ‬يعني‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬عبقرية‭ ‬الفقر‭ ‬تقترح‭ ‬نفسها‭ ‬كنظرية‭ ‬بديلة‭ ‬لمفهوم‭ ‬الصراع‭ ‬الطبقي؟

أم‭ ‬أن‭ ‬الصراع‭ ‬الطبقي‭ ‬هو‭ ‬حقيقة‭ ‬اجتماعية‭ ‬راسخة،‭ ‬تظل‭ ‬تجدد‭ ‬أشكالها‭ ‬وتجلياتها‭ ‬وفق‭ ‬الشروط‭ ‬الاجتماعية‭ ‬المتغيرة؟‭ ‬وما‭ ‬بيع‭ ‬النكتة،‭ ‬وتربية‭ ‬الفئران‭ ‬وتسويقها،‭ ‬والقدرة‭ ‬على‭ ‬تحديد‭ ‬المطالب‭ ‬العادلة‭ ‬وصياغتها‭ ‬بحسبة‭ ‬بسيطة‭ ‬ودقيقة‭.. ‬إلا‭ ‬شكلاً‭ ‬مرحلياً‭ ‬من‭ ‬أشكال‭ ‬الصراع؟

الإجابة‭ ‬لا‭ ‬تتطلّب‭ ‬التعجُّل‭..‬

إنها‭ ‬فقط،‭ ‬تدعو‭ ‬إلى‭ ‬التأمل‭!‬