‮«‬شحنكة‮»‬‭ ‬العشوائيات‭ ‬العمانية


أنباء الوطن -

 

كتب‭ - ‬غازي‭ ‬الذيبة

تشبه‭ ‬النكتة‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬أطلقت‭ ‬من‭ ‬فم‭ ‬مسؤولين‭ ‬رسميين‭ ‬حول‭ ‬ما‭ ‬يلبد‭ ‬في‭ ‬العاصمة‭ ‬من‭ ‬عشوائيات‭. ‬استيقظ‭ ‬كبارهم‭ ‬وصغارهم،‭ ‬ليطلقوا‭ ‬تلك‭ ‬الفتوى‭ ‬المدهشة‭ ‬في‭ ‬أفق‭ ‬أم‭ ‬الجبال‭ ‬السبعة،‭ ‬التي‭ ‬يظن‭ ‬بعضهم‭ ‬أن‭ ‬العاصمة‭ ‬هي‭ ‬عمان‭ ‬الغربية‭ ‬فقط‭. ‬وعلى‭ ‬شاكلتهم،‭ ‬ثمة‭ ‬من‭ ‬يختزلون‭ ‬الوطن‭ ‬بهذه‭ ‬الغربية،‭ ‬ذات‭ ‬البيوت‭ ‬المصابة‭ ‬بالجبنة‭ ‬والحليب،‭ ‬وحين‭ ‬تأتي‭ ‬الساعة‭ ‬المنتفخة‭ ‬بعقاربها‭ ‬اللاسعة،‭ ‬يتذكرون‭ ‬العشوائيات‭ ‬التي‭ ‬يصفونها‭ ‬بأقذع‭ ‬الاوصاف،‭ ‬ويُدلون‭ ‬ناسها‭ ‬في‭ ‬شبكات‭ ‬الصرف‭ ‬الصحي‭ ‬المهترئة،‭ ‬والشوراع‭ ‬الضيقة،‭ ‬والازقة‭ ‬المهشمة‭ ‬بالتعب‭ ‬والنسيان،‭ ‬الخالية‭ ‬من‭ ‬سمات‭ ‬ملح‭ ‬المدن‭ ‬المدهونة‭ ‬بالقرميد،‭ ‬وشعر‭ ‬البنات‭ ‬الذهبي،‭ ‬ورغوة‭ ‬الكريما،‭ ‬وألواح‭ ‬الشيكولاتة‭ ‬المغطاة‭ ‬بـ»شحنكة‮»‬‭ ‬الفقراء‭.‬

تخيل‭ ‬أن‭ ‬يعيش‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬نصف‭ ‬عمان‭ ‬في‭ ‬مناطق‭ ‬لا‭ ‬توجد‭ ‬فيها‭ ‬سوى‭ ‬أشجار‭ ‬البيوت‭ ‬الحزينة‭. ‬نصف‭ ‬مدينة‭ ‬كاملة‭ ‬بلا‭ ‬رئة،‭ ‬والنصف‭ ‬الثاني،‭ ‬رئته‭ ‬متعالية،‭ ‬مصابة‭ ‬بالخوف‭ ‬من‭ ‬العشوائيات‭ ‬على‭ ‬ذمة‭ ‬مهندسين‭ ‬وأباطرة‭ ‬في‭ ‬علوم‭ ‬المناقل‭ ‬والمثلثات‭ ‬والدوائر‭ ‬والمجارير‭ ‬والهراء‭. ‬

نصف‭ ‬مدينة‭ ‬تقريبا،‭ ‬بلا‭ ‬كريما‭ ‬ولا‭ ‬شيكولاتة،‭ ‬تزمهر‭ ‬من‭ ‬البرد‭ ‬شتاء،‭ ‬وتشوى‭ ‬تحت‭ ‬نار‭ ‬القيظ‭ ‬صيفا،‭ ‬ويُلتقط‭ ‬أبناؤها‭ ‬من‭ ‬الشوارع‭ ‬والحواري‭ ‬والأزقة،‭ ‬وعند‭ ‬رفوف‭ ‬الحمام‭ ‬على‭ ‬أسطح‭ ‬البيوت‭ ‬المائلة‭ ‬باتجاه‭ ‬السماء‭ ‬لتسمع‭ ‬أصوات‭ ‬قاطنيها‭ ‬المصابين‭ ‬بسرطان‭ ‬الأحلام‭. ‬

نصف‭ ‬مدينة‭ ‬تستيقظ‭ ‬عند‭ ‬الفجر‭ ‬لتستهل‭ ‬نهاراتها‭ ‬بأصوات‭ ‬سيارات‭ ‬بيع‭ ‬جرار‭ ‬الغاز‭ ‬وموسيقى‭ ‬الضجر‭ ‬اليومي،‭ ‬ولهاث‭ ‬لقمة‭ ‬الخبز‭ ‬المرير،‭ ‬وعبث‭ ‬الحياة‭ ‬المدقع‭ ‬في‭ ‬روح‭ ‬مناطق‭ ‬منسية‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬الجرذان‭ ‬والحشرات‭ ‬الضارية‭ ‬وغياب‭ ‬العدالة‭ ‬والحدائق‭ ‬وعدم‭ ‬الإحساس‭ ‬بالحياة‭ ‬كما‭ ‬ينبغي‭. ‬

نصف‭ ‬مدينة‭ ‬تتهم‭ ‬بانها‭ ‬عشوائية،‭ ‬وبانها‭ ‬بلا‭ ‬تراخيص،‭ ‬وبانها‭ ‬متوعكة‭ ‬صحيا،‭ ‬وبانها‭ ‬بؤر‭ ‬للحزن‭ ‬والكآبة‭ ‬والمخدرات‭ ‬الرخيصة‭ ‬والزعران‭ ‬والمتطرفين،‭ ‬والاسمال‭ ‬المهترئة،‭ ‬ورائحة‭ ‬طفح‭ ‬الاوهام‭ ‬الكريهة‭ ‬من‭ ‬عبارات‭ ‬مقاولين‭ ‬فاسدين‭ ‬لشبكات‭ ‬الصرف‭ ‬الصحي،‭ ‬وموت‭ ‬الارصفة‭ ‬والملاعب‭.‬

نصف‭ ‬مدينة‭ ‬تعمل‭ ‬في‭ ‬البيع‭ ‬على‭ ‬الارصفة،‭ ‬تلتقط‭ ‬لقمتها‭ ‬من‭ ‬الشوارع،‭ ‬والصراخ‭ ‬وراء‭ ‬اللعنات،‭ ‬والشجارات‭ ‬الملتهبة‭ ‬على‭ ‬قضمة‭ ‬حبة‭ ‬كوسا،‭ ‬ونداءات‭ ‬الباعة‭ ‬المتجولين‭ ‬في‭ ‬غابة‭ ‬الكثافة‭ ‬السكانية،‭ ‬والأطعمة‭ ‬التي‭ ‬اقتربت‭ ‬نهاية‭ ‬مدة‭ ‬صلاحيتها،‭ ‬أو‭ ‬انتهت‭ ‬فعليا‭.‬

لا‭ ‬تعرف‭ ‬المؤسسة‭ ‬الرسمية‭ ‬عاصمتها‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬الخرافات‭ ‬والأساطير‭ ‬ومباريات‭ ‬كرة‭ ‬القدم‭ ‬الحمقاء‭.‬

يقف‭ ‬مسؤول‭ ‬بياقته‭ ‬المنشاة،‭ ‬وبذلته‭ ‬الدافئة‭ ‬من‭ ‬بيار‭ ‬كارديان،‭ ‬ليقول‭ ‬في‭ ‬زقاق‭ ‬عشوائية‭ ‬شرقية‭ ‬في‭ ‬عمان‭ ‬الحزينة‭: ‬هل‭ ‬هذه‭ ‬عمان‭ ‬حقا؟‭ ‬علامات‭ ‬دهشة‭ ‬على‭ ‬وجهه‭ ‬وهو‭ ‬يرى‭ ‬اطفالها‭ ‬يتزلجون‭ ‬على‭ ‬قطع‭ ‬بلاستيك‭ ‬في‭ ‬شارع‭ ‬يعاني‭ ‬من‭ ‬ضغط‭ ‬العجلات،‭ ‬ويتنفس‭ ‬عوادم‭ ‬السيارات‭ ‬المنهكة‭ ‬بالخراب‭. ‬

يمسح‭ ‬وجهه‭ ‬الانيق‭ ‬بالحمدلات‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬ابتلى‭ ‬الله‭ ‬به‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬ألم‭ ‬وفاقة،‭ ‬وينزلق‭ ‬الى‭ ‬مرسيدسه،‭ ‬متبرما‭ ‬من‭ ‬زيارته‭ ‬الاولى‭ ‬والاخيرة‭ ‬لهذا‭ ‬الجوع‭ ‬الكافر‭.‬

من‭ ‬يعرف‭ ‬عمان‭ ‬جيدا،‭ ‬يتذكر‭ ‬أن‭ ‬العشوائيات‭ ‬تلك،‭ ‬هي‭ ‬خلاصة‭ ‬توصيات‭ ‬البارخين‭ ‬على‭ ‬كراس‭ ‬جلدية،‭ ‬المتورمين‭ ‬بشهادات‭ ‬شاهقة،‭ ‬بعضها‭ ‬مصاب‭ ‬بالجدري‭ ‬وبعضها‭ ‬الاخر،‭ ‬يتناول‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬كيسا‭ ‬من‭ ‬حبوب‭ ‬نبذ‭ ‬العشوائيات‭ ‬ونسيانها‭. ‬

تماما،‭ ‬هذه‭ ‬عمان،‭ ‬التي‭ ‬تقع‭ ‬في‭ ‬شرق‭ ‬العاصمة،‭ ‬كسيحة،‭ ‬مريضة،‭ ‬مختنقة‭ ‬بعوادم‭ ‬الالم‭ ‬والفقر،‭ ‬ولن‭ ‬تصدقوا‭ ‬كم‭ ‬من‭ ‬الدمامل‭ ‬على‭ ‬وجوه‭ ‬من‭ ‬لم‭ ‬يبتلوا‭ ‬بالاقامة‭ ‬فيها،‭ ‬لمعرفة‭ ‬حزنها،‭ ‬فارحموها‭ ‬من‭ ‬هرائكم،‭ ‬ودعوا‭ ‬ما‭ ‬تبقى‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬أنفاس،‭ ‬ولا‭ ‬تدعوا‭ ‬فقراءها‭ ‬‮«‬يتشحنكون‮»‬‭ ‬على‭ ‬بيوتكم‭ ‬المعلبة‭.‬

‭.........‬

‭ - ‬عن‭ ‬‮«‬الغد‮»‬