عندما‭ ‬يصاب‭ ‬وطن‭ ‬بالخرف


أنباء الوطن -

 

كتب‭ : ‬د‭. ‬علي‭ ‬محمد‭ ‬فخرو

ما‭ ‬عاد‭ ‬المشهد‭ ‬العربي‭ ‬السياسي‭ ‬سرياليا‭ ‬فقط،‭ ‬أي‭ ‬غير‭ ‬قابل‭ ‬للفهم،‭ ‬وإنما‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬مرحلة‭ ‬الخرف‭.‬

لقد‭ ‬فضح،‭ ‬أولا،‭ ‬وجود‭ ‬ذلك‭ ‬الخرف‭ ‬إلى‭ ‬أقصاه‭ ‬تصريح‭ ‬وزير‭ ‬الخارجية‭ ‬الروسي‭ ‬الأخير‭ ‬بضرورة‭ ‬عودة‭ ‬سوريا‭ ‬إلى‭ ‬الجامعة‭ ‬العربية،‭ ‬نعم،‭ ‬المناشدة‭ ‬جاءت‭ ‬من‭ ‬وزير‭ ‬الخارجية‭ ‬الروسي‭ ‬وليست‭ ‬من‭ ‬وزير‭ ‬خارجية‭ ‬عربي‭. ‬فالخرف‭ ‬لم‭ ‬يصل‭ ‬بعد‭ ‬إلى‭ ‬عقل‭ ‬وزير‭ ‬الخارجية‭ ‬الروسي،‭ ‬الذي‭ ‬لايزال‭ ‬قادرا‭ ‬على‭ ‬التفكير‭ ‬المنطقي‭. ‬فهو‭ ‬يرى‭ ‬مندوبي‭ ‬الحكومة‭ ‬السورية‭ ‬يجلسون‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬محفل‭ ‬دولي،‭ ‬بما‭ ‬فيه‭ ‬مجلس‭ ‬الأمن،‭ ‬ويحضرون‭ ‬كل‭ ‬الاجتماعات‭ ‬التي‭ ‬تعقدها‭ ‬هيئة‭ ‬الأمم‭ ‬للنظر‭ ‬في‭ ‬إيجاد‭ ‬حل‭ ‬للمسألة‭ ‬السورية‭. ‬وهو‭ ‬يرى‭ ‬وفودا‭ ‬برلمانية‭ ‬تذهب‭ ‬إلى‭ ‬سوريا‭ ‬لتطلع‭ ‬على‭ ‬أوضاعها‭ ‬وتجتمع‭ ‬بمسؤوليها‭. ‬أما‭ ‬المسؤولون‭ ‬العرب‭ ‬الذين‭ ‬يحضرون‭ ‬اجتماعات‭ ‬جامعة‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬فإنهم‭ ‬لايزالون‭ ‬يحملون‭ ‬الانطباع‭ ‬نفسه‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬سائدا‭ ‬منذ‭ ‬خمس‭ ‬سنوات‭ ‬مضت،‭ ‬وهو‭ ‬أن‭ ‬سلطة‭ ‬الحكم‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬طريقها‭ ‬للزوال‭.‬

والنتيجة‭ ‬هي‭ ‬أن‭ ‬جامعة‭ ‬الدول‭ ‬العربية،‭ ‬المسؤولة‭ ‬عن‭ ‬حاضر‭ ‬ومستقبل‭ ‬كل‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬الوطن‭ ‬العربي،‭ ‬تجد‭ ‬نفسها‭ ‬غير‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬المساهمة‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬مداولات‭ ‬دولية‭ ‬لإخراج‭ ‬الشعب‭ ‬العربي‭ ‬السوري‭ ‬من‭ ‬محنته‭ ‬ومن‭ ‬الجحيم‭ ‬الذي‭ ‬يعيشه،‭ ‬وذلك‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬ارتكبت‭ ‬غلطة‭ ‬إخراج‭ ‬سوريا‭ ‬من‭ ‬الجامعة‭ ‬العربية،‭ ‬كسابقة‭ ‬نظامية‭ ‬خطرة،‭ ‬وقبل‭ ‬أن‭ ‬تنجلي‭ ‬صورة‭ ‬نتائج‭ ‬الصراعات‭ ‬المتشابكة‭ ‬المعقدة‭ ‬في‭ ‬الداخل‭ ‬السوري‭. ‬نحن‭ ‬هنا،‭ ‬لا‭ ‬ندافع‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الجهة‭ ‬ولا‭ ‬نقف‭ ‬ضد‭ ‬تلك‭ ‬الجهة،‭ ‬فمثل‭ ‬هذه‭ ‬الأحكام‭ ‬هي‭ ‬من‭ ‬حق‭ ‬ومسؤولية‭ ‬الشعب‭ ‬العربي‭ ‬السوري،‭ ‬ولكن‭ ‬يحزننا‭ ‬أن‭ ‬نرى‭ ‬مبادرة‭ ‬تصحيح‭ ‬قرار‭ ‬عربي‭ ‬تأتي‭ ‬من‭ ‬خارج‭ ‬الوطن‭ ‬العربي،‭ ‬لتبين‭ ‬عجز‭ ‬وشلل‭ ‬الإرادة‭ ‬العربية‭ ‬السياسية‭ ‬المشتركة‭.‬

لقد‭ ‬فضح،‭ ‬ثانيا،‭ ‬ذلك‭ ‬الخرف‭ ‬أن‭ ‬محاولات‭ ‬إيقاف‭ ‬الدمار‭ ‬المفجع‭ ‬الذي‭ ‬أصاب‭ ‬مجتمع‭ ‬القطر‭ ‬العربي‭ ‬اليمني‭ ‬دخلت‭ ‬في‭ ‬متاهات‭ ‬الغموض‭ ‬والمناورات‭ ‬الدولية‭ ‬وطغيان‭ ‬مشاعر‭ ‬الخلافات‭ ‬المذهبية‭ ‬والقبلية‭ ‬والتاريخية،‭ ‬بسبب‭ ‬غياب‭ ‬الموقف‭ ‬العربي‭ ‬الموحد‭ ‬الحاضن‭ ‬لمصالح‭ ‬وآمال‭ ‬شعب‭ ‬اليمن‭ ‬المعذب‭ ‬المنهك،‭ ‬الذي‭ ‬ما‭ ‬إن‭ ‬يخرج‭ ‬من‭ ‬قبضة‭ ‬مجنون‭ ‬فاسد‭ ‬حتى‭ ‬يدخل‭ ‬في‭ ‬قبضة‭ ‬الجنون‭ ‬الطائفي‭ ‬الأحمق،‭ ‬المستعمل‭ ‬بانتهازية‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬هذه‭ ‬الجهة‭ ‬الأجنبية‭ ‬الخارجية‭ ‬أو‭ ‬تلك‭.‬

يفضح،‭ ‬ثالثا،‭ ‬ذلك‭ ‬الخرف‭ ‬يوميا،‭ ‬وعلى‭ ‬امتداد‭ ‬عقود،‭ ‬أن‭ ‬خلافا‭ ‬حول‭ ‬قطعة‭ ‬صحراوية‭ ‬يظل‭ ‬مشتعلا،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬توجد‭ ‬أي‭ ‬مبادرة‭ ‬عربية‭ ‬لإيصال‭ ‬الطرفين‭ ‬إلى‭ ‬حل‭ ‬يحتضن‭ ‬طموحات‭ ‬وآمال‭ ‬شعوب‭ ‬أقطار‭ ‬المغرب‭ ‬العربي‭ ‬الكبير،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أوصلت‭ ‬المماحكات‭ ‬والتشنجات‭ ‬هذا‭ ‬الموضوع‭ ‬إلى‭ ‬طريق‭ ‬مسدود‭.‬

يفضح،‭ ‬رابعا،‭ ‬ذلك‭ ‬الخرف‭ ‬ما‭ ‬تتناقله‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬ووسائل‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬من‭ ‬همسات‭ ‬وتصريحات‭ ‬حول‭ ‬قضية‭ ‬القضايا‭ ‬العربية،‭ ‬قضية‭ ‬فلسطين‭. ‬بعضها‭ ‬يدعو‭ ‬علنا‭ ‬الى‭ ‬التطبيع‭ ‬مع‭ ‬العدو‭ ‬الصهيوني،‭ ‬الذي‭ ‬يحتل‭ ‬فلسطين‭ ‬كلها‭ ‬ويستبدل‭ ‬شعبها‭ ‬بأغراب‭ ‬يهود‭ ‬يأتون‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬أصقاع‭ ‬الأرض،‭ ‬الذي‭ ‬يسجن‭ ‬ويقتل‭ ‬ويهمش‭ ‬ويهدم‭ ‬البيوت‭. ‬وبعضها‭ ‬يدعو‭ ‬إلى‭ ‬التخلي‭ ‬النهائي‭ ‬عن‭ ‬شعب‭ ‬فلسطين‭ ‬العربي،‭ ‬متناغما‭ ‬مع‭ ‬تصريحات‭ ‬مجرمي‭ ‬الصهيونية‭ ‬في‭ ‬فلسطين‭ ‬المحتلة‭. ‬ولم‭ ‬لا‭ ‬يحدث‭ ‬ذلك‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬بعض‭ ‬الأنظمة‭ ‬العربية‭ ‬تتعامل‭ ‬مع‭ ‬الكيان‭ ‬الصهيوني‭ ‬وكأنه‭ ‬حكومة‭ ‬عربية‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭ ‬العربية؟

يفضح،‭ ‬خامسا،‭ ‬ذلك‭ ‬الخرف‭ ‬أن‭ ‬تنصاع‭ ‬دولة‭ ‬بترولية‭ ‬عربية‭ ‬لإملاءات‭ ‬الخارج‭ ‬وتقبل‭ ‬بأن‭ ‬تنخرط‭ ‬في‭ ‬صراعاتها‭ ‬الدولية،‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تتشاور‭ ‬مع‭ ‬شقيقاتها‭ ‬العربيات‭ ‬المنتجة‭ ‬للبترول،‭ ‬لينتهي‭ ‬الأمر‭ ‬بالهبوط‭ ‬المتسارع‭ ‬المذهل‭ ‬لأسعار‭ ‬البترول،‭ ‬ودخول‭ ‬الجميع‭ ‬في‭ ‬دوامة‭ ‬الديون‭ ‬والتقشف‭ ‬والمستقبل‭ ‬المليء‭ ‬بالأخطار‭.‬

يفضح،‭ ‬سادسا،‭ ‬ذلك‭ ‬الخرف‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الأمة‭ ‬المتخلفة‭ ‬في‭ ‬الاقتصاد‭ ‬والسياسة‭ ‬والثقافة‭ ‬والعلوم‭ ‬والتكنولوجيا،‭ ‬هذه‭ ‬الأمة‭ ‬المهددة‭ ‬بأن‭ ‬تصبح‭ ‬خارج‭ ‬التاريخ‭ ‬وخارج‭ ‬العصر،‭ ‬منشغلة‭ ‬إلى‭ ‬النخاع‭ ‬بصراع‭ ‬فقهي‭ ‬تاريخي‭ ‬طائفي‭ ‬بليد‭ ‬لا‭ ‬يمت‭ ‬بأي‭ ‬صلة‭ ‬إلى‭ ‬القرآن‭ ‬الذي‭ ‬أوحي‭ ‬لمحمد‭ ‬‮«‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‮»‬،‭ ‬والذي‭ ‬يكاد‭ ‬أن‭ ‬يحرق‭ ‬الأخضر‭ ‬واليابس،‭ ‬ويكاد‭ ‬أن‭ ‬ينخر‭ ‬المجتمعات‭ ‬ويفسد‭ ‬العلاقات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬بين‭ ‬ساكني‭ ‬أرض‭ ‬العرب‭.‬

وأخيرا،‭ ‬يفضح‭ ‬خرف‭ ‬هذه‭ ‬الأمة‭ ‬أن‭ ‬تستطيع‭ ‬مجموعات‭ ‬صغيرة‭ ‬من‭ ‬أبنائها‭ ‬إدخال‭ ‬أرض‭ ‬العرب‭ ‬وبقية‭ ‬العالم‭ ‬في‭ ‬دوامة‭ ‬الجهاد‭ ‬التكفيري‭ ‬العنفي،‭ ‬الذي‭ ‬أضر‭ ‬إلى‭ ‬حدود‭ ‬التدمير‭ ‬بسمعة‭ ‬دين‭ ‬الإسلام،‭ ‬وهو‭ ‬الرسالة‭ ‬الوحيدة‭ ‬التي‭ ‬فاخرت‭ ‬هذه‭ ‬الأمة‭ ‬بأنها‭ ‬تحملها‭ ‬للعالم‭ ‬كله‭.‬

يستطيع‭ ‬الإنسان‭ ‬أن‭ ‬يذكر‭ ‬العشرات‭ ‬من‭ ‬التصرفات‭ ‬الخرقاء‭ ‬الجاهلة‭ ‬التي‭ ‬تموج‭ ‬بها‭ ‬أرض‭ ‬العرب‭ ‬والتي،‭ ‬شئنا‭ ‬أم‭ ‬أبينا،‭ ‬خجلنا‭ ‬أم‭ ‬تعنتنا،‭ ‬تدل‭ ‬على‭ ‬وصول‭ ‬المشهد‭ ‬العربي‭ ‬العام‭ ‬إلى‭ ‬مرحلة‭ ‬الخرف‭. ‬عندما‭ ‬يخرف‭ ‬إنسان‭ ‬يرسل‭ ‬إلى‭ ‬مصح‭ ‬لحمايته‭ ‬من‭ ‬نفسه،‭ ‬ولكن‭ ‬ماذا‭ ‬نفعل‭ ‬بأمة‭ ‬مكونة‭ ‬من‭ ‬أربعمئة‭ ‬مليون‭ ‬من‭ ‬البشر؟

ربنا‭ ‬إننا‭ ‬لا‭ ‬نطلب‭ ‬رد‭ ‬قضائك‭ ‬ولكننا‭ ‬نطلب‭ ‬اللطف‭ ‬فيه‭.‬

٭‭ ‬كاتب‭ ‬بحريني

...............

عن ك "القدس العربي"