شيوخ‭ ‬الأزمات‭: ‬محمد‭ ‬نوح‭ ‬القضاة‭ ‬أنموذجاً


أنباء الوطن -

 

كتب‭ : ‬علي‭ ‬عبيدات‭*‬

صناعة‭ ‬الشخصية‭ ‬الدينية‭ ‬جزءٌ‭ ‬أساسي‭ ‬في‭ ‬الأنظمة‭ ‬العربية‭ ‬مرّت‭ ‬في‭ ‬مراحل‭ ‬مختلفة‭ ‬تباين‭ ‬دورها‭ ‬وحضورها‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬الحقب‭ ‬التاريخية،‭ ‬خصوصاً‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬النظام‭ ‬السياسي‭ ‬مؤمناً‭ ‬بضرورة‭ ‬الدين‭ ‬ولا‭ ‬يشرب‭ ‬من‭ ‬مشارب‭ ‬أيديولوجية؛‭ ‬فيكون‭ ‬حضور‭ ‬الشخصية‭ ‬الدينية‭ ‬واجباً‭ ‬لاكتمال‭ ‬مشهد‭ ‬الحكم‭ ‬الذي‭ ‬يُلّخص‭ ‬في‭ ‬“الله،‭ ‬الوطن،‭ ‬الملك”‭.‬

أهم‭ ‬مميزات‭ ‬لهذه‭ ‬الشخصية‭ ‬الدينية‭ ‬أنها‭ ‬تؤسّس‭ ‬لتغوّل‭ ‬السلطة‭ ‬وتبرّر‭ ‬لها‭ ‬الكثير‭ ‬أو‭ ‬تعارضها‭ ‬معارضة‭ ‬ناعمة‭ ‬تنتهي‭ ‬بالنفي‭ ‬أو‭ ‬التهميش،‭ ‬بين‭ ‬هاتين‭ ‬الفئتين‭ ‬ظهرت‭ ‬“الشخصية‭ ‬الدينية”‭ ‬التي‭ ‬تلعب‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬المحايدة‭ ‬بين‭ ‬شيوخ‭ ‬السلاطين‭ ‬‮«‬كشيوخ‭ ‬الأزهر‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬والتيار‭ ‬السلفي‭ ‬في‭ ‬السعودية‭ ‬وأئمة‭ ‬إيران‭ ‬وبعض‭ ‬حركات‭ ‬الإسلام‭ ‬السياسي‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الدول‭ ‬العربية‮»‬،‭ ‬وبين‭ ‬طرف‭ ‬اللعبة‭ ‬الآخر‭ ‬“السلطة”،‭ ‬وهنا‭ ‬تكسب‭ ‬الشخصية‭ ‬الدينية‭ ‬شعبية‭ ‬الناس‭ ‬‮«‬معارضين‭ ‬وموالين‮»‬‭ ‬ولا‭ ‬تخافها‭ ‬السلطة‭ ‬لأنها‭ ‬تلتفّ‭ ‬دائماً‭ ‬حول‭ ‬“أمن”‭ ‬البلاد‭ ‬في‭ ‬الملمّات‭ ‬وتلهج‭ ‬بالدعاء‭ ‬للحاكم‭ ‬بالصلاح‭.‬

في‭ ‬الأردن‭ ‬كانت‭ ‬حالة‭ ‬استثنائية‭ ‬أو‭ ‬ربمّا‭ ‬وحيدة‭ ‬مثّلها‭ ‬الشيخ‭ ‬نوح‭ ‬القضاة‭ ‬الذي‭ ‬كسِب‭ ‬قلوب‭ ‬الأردنيين‭ ‬بسمعته‭ ‬الطيبة‭ ‬وشخصيته‭ ‬المؤثرة‭ ‬وكذلك‭ ‬كانت‭ ‬تحبه‭ ‬السلطة،‭ ‬وقد‭ ‬أثبت‭ ‬مدى‭ ‬مصداقيته‭ ‬ونزاهته‭ ‬في‭ ‬مواقعه‭ ‬التي‭ ‬تقلّدها‭ ‬زمن‭ ‬الملك‭ ‬حسين،‭ ‬هذا‭ ‬كلّه‭ ‬أهّل‭ ‬الشيخ‭ ‬ليسكن‭ ‬في‭ ‬والوجدان‭ ‬الديني‭ ‬الأردني،‭ ‬ناهيكَ‭ ‬عن‭ ‬عدم‭ ‬انخراطه‭ ‬في‭ ‬الجماعات‭ ‬الإسلامية‭.‬

بعد‭ ‬رحيل‭ ‬نوح‭ ‬القضاة،‭ ‬بقيت‭ ‬السلطة‭ ‬في‭ ‬الأردن‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬شخصية‭ ‬دينية‭ ‬بارزة‭ ‬فترة‭ ‬من‭ ‬الزمن،‭ ‬حتى‭ ‬انتهى‭ ‬الابن‭ ‬محمد‭ ‬نوح‭ ‬من‭ ‬مرحلة‭ ‬التدريس‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭ ‬واتجه‭ ‬صوب‭ ‬المناصب‭ ‬والإعلام‭ ‬‮«‬تقديم‭ ‬برامج‭ ‬تلفزيونية‭ ‬وإذاعية‭ ‬وصفحات‭ ‬مواقع‭ ‬تواصل‭ ‬وعمل‭ ‬عام‭ ‬وعلاقات‭ ‬وطيدة‭ ‬مع‭ ‬الإعلاميين‭ ‬الأردنيين»؛‭ ‬وبدأت‭ ‬الأردن‭ ‬احتفاءها‭ ‬بالشيخ‭ ‬الحداثي‭ ‬بكامل‭ ‬أناقته‭ ‬ومشاريعه‭ ‬‮«‬خاصة‭ ‬وعامة‮»‬‭ ‬ومحاربة‭ ‬الفساد‭ ‬الإداري‭ ‬الذي‭ ‬تلألأ‭ ‬في‭ ‬سماء‭ ‬وعوده‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬وزيراً‭ ‬للشباب‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬أصبح‭ ‬نائبًا‭ ‬في‭ ‬مجلس‭ ‬النواب‭ ‬الأردني‭ ‬الثامن‭ ‬عشر‭.‬

شيخٌ‭ ‬بمناظير‭ ‬مختلفة؛‭ ‬يرفع‭ ‬شعار‭ ‬العدالة‭ ‬ومكافحة‭ ‬الفساد،‭ ‬ومظهر‭ ‬أنيق‭ ‬وقريب‭ ‬من‭ ‬الشباب،‭ ‬والحديث‭ ‬عن‭ ‬حضور‭ ‬الدين‭ ‬في‭ ‬صميم‭ ‬الدولة‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬تنقله‭ ‬بين‭ ‬المحافظات‭ ‬واعتلائه‭ ‬المنابر‭ ‬التي‭ ‬يتسابق‭ ‬الناس‭ ‬للجلوس‭ ‬قرب‭ ‬أعمدتها‭ ‬في‭ ‬القرى‭ ‬والأرياف‭ ‬والمدن،‭ ‬وترشّحه‭ ‬للانتخابات‭ ‬خارج‭ ‬نطاق‭ ‬عشيرته‭ ‬ومحافظته‭ ‬وظهوره‭ ‬في‭ ‬البث‭ ‬المباشر‭ ‬كلما‭ ‬حلّت‭ ‬مصيبة‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الوطني؛‭ ‬باعتبار‭ ‬البعد‭ ‬الديني‭ ‬مهماً‭ ‬للناس‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬حال‭ ‬من‭ ‬حالات‭ ‬الطوارئ‭ ‬‮«‬أحداث‭ ‬إرهابية‭ ‬وصلاة‭ ‬جنازة‭ ‬وخطب‭ ‬جمعة‮»‬،‭ ‬وهذه‭ ‬أدوات‭ ‬الشيخ‭ ‬محمد‭ ‬التي‭ ‬صمّمها‭ ‬لنفسه،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬اعتماده‭ ‬على‭ ‬إرث‭ ‬أبيه‭.‬

تجاوز‭ ‬الشيخ‭ ‬محمد‭ ‬نوح‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المواقف‭ ‬الحرجة‭ ‬التي‭ ‬سببّتها‭ ‬زيارته‭ ‬إلى‭ ‬إيران‭ ‬وتأييده‭ ‬للسياحة‭ ‬الدينية‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬أبناء‭ ‬الطائفة‭ ‬الشيعية‭ ‬إلى‭ ‬الأردن،‭ ‬وكذلك‭ ‬‮«‬تَرَبُصّ‮»‬‭ ‬الصحفيين‭ ‬له‭ ‬والتقاط‭ ‬صورته‭ ‬بينما‭ ‬هو‭ ‬ينام‭ ‬في‭ ‬جلسة‭ ‬مجلس‭ ‬النواب،‭ ‬و‭ ‬‮«‬اتهاماته‮»‬‭ ‬للصحافة‭ ‬المحلية‭ ‬له‭ ‬بمهاجمتها‭ ‬وعدم‭ ‬احترامها،‭ ‬وعلاقته‭ ‬الجدلية‭ ‬مع‭ ‬العلمانيين‭ ‬الأردنيين‭ ‬المطالبين‭ ‬بدولة‭ ‬مدنية،‭ ‬والذي‭ ‬ينقدون‭ ‬طرح‭ ‬ومحتوى‭ ‬دروسه‭ ‬ومحاضراته‭ ‬في‭ ‬المحافظات،‭ ‬وقد‭ ‬راق‭ ‬لهم‭ ‬الرفض‭ ‬الشعبي‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬محافظة‭ ‬الكرك‭ ‬باعتلاء‭ ‬المنبر‭ ‬بعد‭ ‬الأحداث‭ ‬الإرهابية‭ ‬فيها‭.‬

لكن‭ ‬إلى‭ ‬أين‭ ‬يمضي‭ ‬الشيخ‭ ‬محمد‭ ‬نوح؟‭ ‬تُرافق‭ ‬الشيخ‭ ‬ماكنة‭ ‬إعلامية‭ ‬كبيرة‭ ‬تمتدّ‭ ‬من‭ ‬إذاعته‭ ‬–الخاصة‭- ‬ودعم‭ ‬مواقع‭ ‬إخبارية‭ ‬عديدة‭ ‬وقنوات‭ ‬تلفزة‭ ‬وصفحات‭ ‬على‭ ‬وسائط‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬واستناداً‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬كلّه‭ ‬يصبح‭ ‬يسيراً‭ ‬تسويق‭ ‬خطابه‭/ ‬خطبته‭ ‬في‭ ‬مجلس‭ ‬النواب‭ ‬التي‭ ‬تثير‭ ‬العاطفة‭ ‬الدينية‭ ‬بالحديث‭ ‬عن‭ ‬الفساد‭ ‬والمفدسين‭ ‬–بشكل‭ ‬عام‭- ‬من‭ ‬دون‭ ‬تبني‭ ‬ملف‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬الملفات‭ ‬التي‭ ‬تخدش‭ ‬كرامة‭ ‬ورزق‭ ‬الأردنيين‭ ‬كل‭ ‬يوم،‭ ‬ومن‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬يسمّي‭ ‬حقيقة‭ ‬واحدة‭ ‬باسمها‭.‬

ويتكفّل‭ ‬الجيش‭ ‬الإعلامي‭ ‬الجرار‭ ‬بتسليط‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬شجاعة‭ ‬الشيخ‭ ‬وجرأته،‭ ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬إعداد‭ ‬الاستفتاء‭ ‬المعروف‭ ‬“هل‭ ‬تؤيد‭ ‬استلام‭ ‬الدكتور‭ ‬محمد‭ ‬نوح‭ ‬القضاة‭ ‬رئاسة‭ ‬الوزراء؟”‭.‬

قام‭ ‬محمد‭ ‬نوح‭ ‬قبل‭ ‬أيام‭ ‬بتوزيع‭ ‬طرود‭ ‬الخير‭ ‬على‭ ‬أبناء‭ ‬محافظة‭ ‬الزرقاء‭ ‬كما‭ ‬تفعل‭ ‬أي‭ ‬جمعية‭ ‬خيرية‭ ‬أو‭ ‬رجل‭ ‬ميسور‭ ‬الحال‭ ‬ممن‭ ‬يروّجون‭ ‬اسم‭ ‬مؤسساتهم‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬المحلي‭ ‬طمعاً‭ ‬بالشهرة‭ ‬التي‭ ‬يملكها‭ ‬الشيخ‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬هذا‭ ‬العناء،‭ ‬لكن‭ ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬الشيخ‭ ‬قرّر‭ ‬أن‭ ‬يبدّل‭ ‬برنامجه‭ ‬الانتخابي‭ ‬الذي‭ ‬وعَد‭ ‬بمحاربة‭ ‬الفساد‭ ‬عبر‭ ‬توزيعه‭ ‬المساعدات‭ ‬والصدقات‭.‬

عند‭ ‬مؤخرة‭ ‬شاحنة‭ ‬الطرود‭ ‬ظهَر‭ ‬القضاة‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬تلقائيته‮»‬‭ ‬و‭ ‬‮«‬عفويته‮»‬،‭ ‬ليحّل‭ ‬أزمة‭ ‬المديونية‭ ‬وتفاقم‭ ‬العجز‭ ‬الحكومي‭ ‬وتفشي‭ ‬الفساد‭ ‬عبر‭ ‬دخوله‭ ‬قلوب‭ ‬المؤمنين‭ ‬وفك‭ ‬طلاسمها،‭ ‬والذين‭ ‬تتنامى‭ ‬قشعريرتهم‭ ‬كلما‭ ‬دخل‭ ‬الشيخ‭ ‬من‭ ‬“‮«‬باب‭ ‬الله‭ ‬ورسوله‮»‬‭.‬

‭........................‬

‭* ‬علي‭ ‬عبيدات‭ : ‬صحافي‭ ‬وباحث‭ ‬ومترجم‭ ‬أردني‭.‬

‭....................‬

‭- ‬عن‭ ‬‮«‬موقع‭ ‬عمّان‭ ‬نت‮»‬