لُغةٌ‭ ‬للقَتل


أنباء الوطن -

 

كتبت‭ : ‬بسمة‭ ‬عبد‭ ‬العزيز

فى‭ ‬مُنتصف‭ ‬الشهر‭ ‬الماضى،‭ ‬قررت‭ ‬وزارةُ‭ ‬التربية‭ ‬والتعليم‭ ‬تعديلَ‭ ‬مواصفاتِ‭ ‬سؤال‭ ‬القصّة‭ ‬فى‭ ‬امتحانات‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭. ‬القصّة‭ ‬هى‭ ‬بمثابة‭ ‬كتاب‭ ‬إضافيّ‭ ‬فيه‭ ‬موضوع‭ ‬واحد،‭ ‬مُقَرَّر‭ ‬على‭ ‬الصفوف‭ ‬الدراسية‭ ‬مِن‭ ‬الصفِّ‭ ‬السادس‭ ‬الابتدائيّ‭ ‬وحتى‭ ‬الثانى‭ ‬الثانويّ،‭ ‬أحيانًا‭ ‬ما‭ ‬يشمل‭ ‬الكتاب‭ ‬قصّة‭ ‬تاريخية‭ ‬وفى‭ ‬أحيان‭ ‬أخرى‭ ‬يميل‭ ‬نحو‭ ‬الشقّ‭ ‬الاجتماعيّ‭. ‬موضوعُ‭ ‬القصة‭ ‬ليس‭ ‬هو‭ ‬المسألة‭ ‬التى‭ ‬لفتت‭ ‬نظرى،‭ ‬بل‭ ‬شكل‭ ‬التعديلات‭ ‬التى‭ ‬دخلت‭ ‬على‭ ‬سؤالها‭ ‬فى‭ ‬الامتحان،‭ ‬فقرار‭ ‬الوزارة‭ ‬يقضى‭ ‬بحذف‭ ‬أسئلةِ‭ ‬المفردات‭ ‬واللغويات‭ ‬بدعوى‭ ‬التخفيف‭ ‬على‭ ‬الطلاب،‭ ‬وقد‭ ‬أرسل‭ ‬مُستشار‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬بالوزارة‭ ‬تعليمات‭ ‬لموجِّهى‭ ‬عموم‭ ‬اللغة‭ ‬تفيد‭ ‬ما‭ ‬يلى‭ ‬حرفًا‭: ‬‮«‬الطالب‭ ‬سيتعامل‭ ‬مع‭ ‬سؤال‭ ‬القصة‭ ‬مثل‭ ‬أى‭ ‬سؤال‭ ‬آخر‭ ‬حيث‭ ‬يهتم‭ ‬بالأحداث‭ ‬التى‭ ‬تدور‭ ‬بها‭ ‬والشخصيات‭ ‬الموجودة،‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬اللغويات‭ ‬ومفردات‭ ‬الكلماتِ‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬السؤال‭ ‬سيكون‭ ‬بدون‭ ‬فقرة‮»‬،‭ ‬وقد‭ ‬زفَّت‭ ‬الصُحُف‭ ‬البشرى‭ ‬للأهالى‭ ‬والطلاب‭ ‬فى‭ ‬حماسةٍ‭ ‬وابتهاج‭.‬

مرَّ‭ ‬يومٌ‭ ‬واثنان‭ ‬وأسبوعٌ‭ ‬وأسبوعان،‭ ‬انتَظَرْت‭ ‬أن‭ ‬أسمعَ‭ ‬شيئًا‭ ‬أو‭ ‬أقرأ‭ ‬شيئًا‭ ‬يشتبكُ‭ ‬مع‭ ‬القرار‭ ‬سواء‭ ‬بالسلب‭ ‬أو‭ ‬الإيجاب،‭ ‬فخاب‭ ‬الظنُّ‭ ‬وراح‭ ‬الانتظارُ‭ ‬أدراجَ‭ ‬الرياح‭. ‬أَمِلت‭ ‬للحقِّ‭ ‬أن‭ ‬يظهر‭ ‬مَن‭ ‬يعترض‭ ‬ويصرخ‭ ‬ويئنّ‭ ‬مِن‭ ‬اللكمات‭ ‬المُتتابِعة‭ ‬والركلات‭ ‬التى‭ ‬يُوجهها‭ ‬المسئولون‭ ‬إلى‭ ‬اللغةِ‭ ‬المسكينة؛‭ ‬فلا‭ ‬كَتَبَ‭ ‬واحدٌ‭ ‬يدافع‭ ‬عنها‭ ‬ولا‭ ‬ثارَ‭ ‬مدرسوها‭ ‬ولا‭ ‬اعترضَ‭ ‬أربابُها‭ ‬ولا‭ ‬أصدر‭ ‬مَجمَعُ‭ ‬اللغةِ‭ ‬العربية‭ ‬بيانًا‭ ‬استنكر‭ ‬فيه‭ ‬الكلامَ‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬أبدى‭ ‬عدمَ‭ ‬الارتياح،‭ ‬وكأن‭ ‬الأمرَ‭ ‬لا‭ ‬يخصُّ‭ ‬أحدًا‭ ‬ولا‭ ‬يثير‭ ‬الاستياء،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬مبعثُ‭ ‬طمأنينةٍ‭ ‬وسلام‭ ‬لأولئك‭ ‬وهؤلاء‭.‬

‭***‬

تقول‭ ‬الكاتبةُ‭ ‬الأمريكية‭ ‬إيملى‭ ‬روبينز‭ ‬التى‭ ‬حقَّقَت‭ ‬روايتُها‭ ‬A Word for Love‭ ‬نجاحًا‭ ‬لافتًا،‭ ‬إن‭ ‬شغفها‭ ‬بدراسة‭ ‬اللغةِ‭ ‬العربيةِ‭ ‬سبقها‭ ‬إليه‭ ‬أحدُ‭ ‬أفراد‭ ‬العائلة،‭ ‬وإنها‭ ‬سارت‭ ‬على‭ ‬الدربِ‭ ‬ذاته‭ ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬افتُتِنَت‭ ‬بتراكيبِ‭ ‬اللغة‭ ‬وعشقتها،‭ ‬جاءت‭ ‬إجابتُها‭ ‬هذه‭ ‬ردًا‭ ‬على‭ ‬سؤالٍ‭ ‬وُجِّهَ‭ ‬إليها‭ ‬حول‭ ‬السبب‭ ‬الذى‭ ‬ألهمها‭ ‬تَعَلُّمَ‭ ‬العربيةِ‭ ‬رغم‭ ‬أنها‭ ‬تعدُّ‭ ‬اختيارًا‭ ‬غير‭ ‬مُعتاد‭ ‬بالنسبة‭ ‬للمواطنين‭ ‬الأمريكيين‭. ‬عاشت‭ ‬روبينز‭ ‬فى‭ ‬سوريا‭ ‬ما‭ ‬يقرب‭ ‬مِن‭ ‬عامٍ؛‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬ألفين‭ ‬وسبعة‭ ‬وألفين‭ ‬وثمانية،‭ ‬وهو‭ ‬المكان‭ ‬الذى‭ ‬اختارت‭ ‬أن‭ ‬تدور‭ ‬فيه‭ ‬روايتها،‭ ‬وطافت‭ ‬فى‭ ‬سطورِها‭ ‬بين‭ ‬عشراتِ‭ ‬المُفردات‭ ‬التى‭ ‬تمور‭ ‬بها‭ ‬العربية‭ ‬لوَصفِ‭ ‬الحُبّ‭. ‬هذا‭ ‬الثراء‭ ‬اللغويّ‭ ‬أبهرها‭ ‬وأعجزنا؛‭ ‬أرادت‭ ‬تسجيلَه‭ ‬وتبجيلَه‭ ‬وأردنا‭ ‬محوَه‭ ‬والاستهزاءَ‭ ‬به‭. ‬

‭***‬

كلما‭ ‬راسلنى‭ ‬زميلٌ‭ ‬أو‭ ‬تواصلت‭ ‬معى‭ ‬زميلةٌ‭ ‬بهدفِ‭ ‬إجراءِ‭ ‬حوارٍ‭ ‬أو‭ ‬مُقابلةٍ؛‭ ‬تَوَجَّست‭ ‬وحَسَبت‭ ‬الأمرَ‭ ‬وأعدت‭ ‬الحسابات،‭ ‬ثم‭ ‬طلبت‭ ‬أن‭ ‬أرى‭ ‬الكلامَ‭ ‬المُعَدَّ‭ ‬فى‭ ‬صِيغته‭ ‬النهائية‭ ‬قبل‭ ‬النشر،‭ ‬لا‭ ‬سخافة‭ ‬منى‭ ‬ولا‭ ‬تعاليًا،‭ ‬بل‭ ‬رغبة‭ ‬فى‭ ‬إخراج‭ ‬المعانى‭ ‬بأبهى‭ ‬صورة،‭ ‬ومِن‭ ‬قَبل‭ ‬الصورة‭ ‬والأسلوب‭ ‬والشكل،‭ ‬خوفًا‭ ‬مِن‭ ‬الأخطاء‭ ‬والسقطات‭ ‬والزلات‭ ‬المُهِينة‭ ‬التى‭ ‬لا‭ ‬يتمُّ‭ ‬تصحيحُها‭ ‬عبر‭ ‬المراجعين‭ ‬اللغويّين‭ ‬والمسئولين،‭ ‬لتترسَّخَ‭ ‬فى‭ ‬أذهاننا‭ ‬وكأنها‭ ‬عادية‭ ‬مقبولة‭.‬

أراجعُ‭ ‬وأصحِّحُ‭ ‬وأدقِّق،‭ ‬أنشدُ‭ ‬الكمالَ‭ ‬ولا‭ ‬أصلُ‭ ‬إليه‭ ‬بطبيعة‭ ‬الحالِ‭ ‬والأشياء،‭ ‬لكنى‭ ‬كثيرًا‭ ‬ما‭ ‬أنزعج‭ ‬مِن‭ ‬تكرار‭ ‬مُفرداتٍ‭ ‬بعينها‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬أنّ‭ ‬اللغةَ‭ ‬خلت‭ ‬مِن‭ ‬غيرها،‭ ‬يحمل‭ ‬سطرٌ‭ ‬واحدٌ‭ ‬المفردَة‭ ‬نفسها‭ ‬ثلاث‭ ‬أو‭ ‬أربع‭ ‬مراتٍ،‭ ‬فيستفزّ‭ ‬العينَ‭ ‬ويكسرُ‭ ‬موسيقى‭ ‬الكلام‭ ‬ويغلق‭ ‬الأذنَ‭ ‬عن‭ ‬المضمون‭. ‬أحذف‭ ‬المفردة‭ ‬وأستبدل‭ ‬بها‭ ‬أخرى‭ ‬وأخريات،‭ ‬وأتساءل‭ ‬ترى‭ ‬هل‭ ‬ضاق‭ ‬بحر‭ ‬الكلمات‭ ‬العربية‭ ‬المُفَعَّلة‭ ‬فى‭ ‬أيامنا‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الحدّ؟‭ ‬كنا‭ ‬نتعلم‭ ‬فى‭ ‬المدرسة‭ ‬المُترادِفات،‭ ‬ونؤدى‭ ‬فيها‭ ‬جزءًا‭ ‬مِن‭ ‬الامتحان،‭ ‬وندرسُ‭ ‬الأضدادَ‭ ‬ونحفظها،‭ ‬بمرور‭ ‬الوقت‭ ‬تكوَّنت‭ ‬لدينا‭ ‬حصيلة‭ ‬لا‭ ‬بأس‭ ‬بها،‭ ‬يمكن‭ ‬استخدامها‭ ‬فى‭ ‬الكتابة‭ ‬وإن‭ ‬لم‭ ‬تجد‭ ‬لها‭ ‬مكانًا‭ ‬فى‭ ‬أحاديثنا‭ ‬اليومية‭ ‬الكئيبة‭.‬

‭***‬

ما‭ ‬بين‭ ‬قرار‭ ‬وزارة‭ ‬التربية‭ ‬والتعليم‭ ‬الذى‭ ‬أسفت‭ ‬له‭ ‬ولم‭ ‬أندهش،‭ ‬وانتشار‭ ‬المفردات‭ ‬الأجنبية‭ ‬على‭ ‬ألسنتنا‭ ‬وفى‭ ‬لافتاتنا‭ ‬وأدمغتنا‭ ‬وقد‭ ‬كتبت‭ ‬عنه‭ ‬مرارًا‭ ‬ولم‭ ‬أزل،‭ ‬تذكرت‭ ‬شخصية‭ ‬‮«‬التبَّاع‮»‬‭ ‬الذى‭ ‬انتفضَ‭ ‬فى‭ ‬الميكروباص‭ ‬حين‭ ‬صعدت‭ ‬شابةٌ‭ ‬أعوجَّ‭ ‬لسانُها‭ ‬وراحت‭ ‬تحدثه‭ ‬بعبارات‭ ‬مُطَعَّمة‭ ‬بالإنجليزية،‭ ‬بينما‭ ‬هو‭ ‬يحدِّثها‭ ‬بعربية‭ ‬ليست‭ ‬كالعربية،‭ ‬وحين‭ ‬استعصى‭ ‬التفاهم‭ ‬بينهما‭ ‬أدلى‭ ‬التبَّاعُ‭ ‬بالقول‭ ‬الفصل‭: ‬‮«‬هو‭ ‬فيه‭ ‬كلام‭ ‬جديد‭ ‬نزل‭ ‬وللا‭ ‬إيه؟‮»‬‭.‬

امتهانُ‭ ‬اللغةِ‭ ‬واختزالُها‭ ‬والحدُّ‭ ‬مِن‭ ‬قُدرة‭ ‬الناس‭ ‬على‭ ‬استعمالها‭ ‬جزءٌ‭ ‬مِن‭ ‬استعبادهم،‭ ‬وما‭ ‬كان‭ ‬الاستعمار‭ ‬الذكيّ‭ ‬ينتهجُ‭ ‬إلا‭ ‬مِثل‭ ‬هذه‭ ‬السُبل‭ ‬لفرضِ‭ ‬سيطرته‭ ‬ونفوذه،‭ ‬أما‭ ‬ادعاء‭ ‬التهوين‭ ‬على‭ ‬التلاميذ‭ ‬فلا‭ ‬يتأتى‭ ‬بشلِّ‭ ‬ألسنتهم‭ ‬وتحجيم‭ ‬مداركهم،‭ ‬فالمخ‭ ‬البشريّ‭ ‬لمن‭ ‬يريد‭ ‬الحقائق‭ ‬العلمية؛‭ ‬يسع‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬حصره‭ ‬ولا‭ ‬تُعجِزه‭ ‬مُفرداتٌ‭ ‬أو‭ ‬مُترادفاتٌ‭ ‬أو‭ ‬غيرها،‭ ‬إنما‭ ‬الأمر‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬طُرق‭ ‬التدريس‭ ‬وأساليبه،‭ ‬ويتعلق‭ ‬بالغرض‭ ‬مِن‭ ‬وراء‭ ‬انتقاء‭ ‬أسلوب‭ ‬وإقصاء‭ ‬آخر‭. ‬

‭***‬

ربما‭ ‬خابت‭ ‬عقولنا‭ ‬فخاب‭ ‬مضمونُ‭ ‬كلامِنا‭ ‬وصار‭ ‬حديثُنا‭ ‬فارغًا،‭ ‬مُفرغًا‭ ‬مِن‭ ‬المعنى‭ ‬والمحتوى،‭ ‬نعدم‭ ‬ما‭ ‬نقول‭ ‬فنكرر‭ ‬الأشياء‭ ‬نفسها،‭ ‬نهدر‭ ‬ثراءنا‭ ‬اللغوى‭ ‬خطوة‭ ‬تلو‭ ‬أخرى،‭ ‬بينما‭ ‬يتغنى‭ ‬به‭ ‬الآخرون‭.‬

‭...............‬

‭* ‬بسمة‭ ‬عبد‭ ‬العزيز‭ ‬طبيبة‭ ‬وكاتبة

‭- ‬عن‭ ‬‮«‬بوابة‭ ‬الشروق‮»‬