مصر وغزة ... والكورة والغابون


أنباء الوطن -

انباء الوطن -

بقلم / د. ناصر الصوير كاتب ومحلل سياسي فلسطيني مقيم في غزة أكدت بطولة كأس الأمم الأفريقية الــ 31 التي انتهت الأحد الماضي ونظمتها دولة الغابون وفازت بها الكاميرون وشاركت فيها عدة دول عربية أفريقية من بينها مصر بما لا يدع مجالاً للشك أو التأويل أو الظن أن قطاع غزة ينصرف قلباً وقالباً وعقلياً ووجدانياً وعاطفياً تجاه الشقيقة الكبرى مصر؛ فمن تابع وشاهد عشرات الآلاف من أبناء القطاع وهم يتابعون متمسمرين أمام شاشات التلفاز مباريات المنتخب المصري في البيوت والنوادي والمقاهي والشوارع وهم يشجعون المنتخب المصري بكل حماس ومؤازرة وتأييد لا يشك لحظة واحدة أن هذه الحشود والجموع تشجع منتخبها الوطني وليس منتخب دولة أخرى. فكم كان المشهد مؤثراً وأبناء القطاع يتفاعلون بوجدانهم وعواطفهم مع كل مباريات المنتخب المصري الشقيق، فتراهم يهللون مع كل هدف لمنتخب مصر ويكبرون مع كل انتصار. إن ما شهده القطاع من تشجيع جنوني للمنتخب المصري والذي ربما فاق تشجيع المصريين لمنتخبهم لا ينبغي أن يمر مرور الكرام فهي مشاهد متفردة لها مدلولات سياسية واجتماعية في غاية الوضوح والأهمية تؤكد أن العلاقات المصرية مع قطاع غزة ليست مكتوبة بقلم رصاص سرعان ما تمحى أو مكتوبة على رمال البحر سرعان ما تزول! فهي أكبر من ذلك بكثير، وأكبر من مسألة جيرة أو عروبة فهي علاقة فارقة رسمت معالمها الجغرافيا والتاريخ والماضي والحاضر والمستقبل والمصير. ولمن لا يعلم فقد أنشئ قطاع غزة ككيان سياسي بعد نكبة فلسطين وحمل هذا الاسم (قطاع غزة) في عهد الحكم المصري للقطاع الذي امتد 19 عاماً متواصلة كان فيه القطاع برمته في أحضان مصر كالابن في أحضان أمه، ولو نظرنا للمحدد الجغرافي نجد أن قطاع غزة كان طيلة الوقت مدخل بلاد الشام لمصر والعكس، ومدخل أسيا لأفريقيا والعكس، والامتداد الطبيعي لمصر تجاه الشمال الشرقي وخط دفاعها الأول من هذا الاتجاه. أما المحدد التاريخي للعلاقة بين مصر والقطاع فهي ممتدة امتداد التاريخ نفسه وليس أدل على ذلك ما أكدته الحفريات والآثار التي عثر عليها سواء في مصر أو في القطاع والتي أكدت أن غزة ارتبطت بمصر على مدار التاريخ ارتباطاً وثيقاً دون انفكاك. لقد أوجد هذا الارتباط بين الطرفين تداخل كبير جاء نتيجة وحدانية المصير والرؤى والتطلعات، وما زاده تشابكاً وتداخلاً اقتران(زواج) عشرات الآلاف من سكان القطاع لاسيما إبان الحكم المصري للقطاع(1948-1967) بمصريات فأصبح الواقع الاجتماعي أكثر قرباً وامتزاجاً خصوصاً بعد أن صدر القرار الرئاسي المصري 2011م بمنح الجنسية المصرية لأبناء المصرية المتزوجة من فلسطيني الأمر الذي سمح لعشرات الآلاف من الفلسطينيين من أمهات مصريات بالحصول فعلا على الجنسية المصرية، فأصبحت مصر فعليا في قلب المجتمع الغزي بعدد كبير جداً من الفلسطينيين من حملة الجنسية المصرية. يعتقد البعض خطأً إن ما شاهدناه خلال كأس الأمم الأفريقية في الغابون والتلاحم الكامل لغزة مع مصر هو مجرد حماس كروي ليس إلا، لكنه في الحقيقة الأمر أكبر من ذلك بكثير فهو يؤكد على أن العلاقات بين مصر والقطاع لن تتزعزع أبداً مهما ساءت أو فترت أو توترت بسبب تصرفات خاطئة من هنا أو هناك، أو مناكفات سياسية بين حكام غزة والسلطات المصرية، ولن تترنح أو تنتهي أبداً بسبب قيام بعض الإعلاميين في مصر وللأسف الشديد بمحاولة تضليل الرأي العام المصري وتشويه صورة القطاع لديه، وتوجيه سهام مسمومة في جسد هذه العلاقة الأزلية المصيرية وكأن قطاع غزة العاشق الأبدي لمصر عدو استراتيجي. إن مشهد بكاء الآلاف من أبناء القطاع عندما خسرت مصر البطولة أمام الكاميرون يأتي كدعوة عاجلة لكل من يهمه الأمر في مصر وغزة بضرورة عودة العلاقة بين مصر الكبرى والأب الراعي للعالم الإسلامي والعربي وغزة العزة والصمود إلى سابق عهدها، عندما كان المواطن الغزي يعامل معاملة المصري في كل شيء. إن أسوأ ما في الأمر هو أن الخلافات الموجودة بين حركة حماس والسلطات المصرية والتي لسنا بصدد الحديث عنها سوى التذكير بأن حركة حماس جزء لا يتجزأ من حركة الإخوان المسلمين وهو ما لا تنكره الحركة التي تعتبرها السلطات المصرية منظمة إرهابية، والشكوك المصرية بوجود تعاون وثيق بين هاتين الحركتين بما يعرض الأمن القومي المصري للخطر. لذلك على صناع القرار تفصيل الأمر جيداً فقطاع غزة ليس حماس فقط، القطاع به مليوني مواطن ليسوا كلهم حماس فمعظمهم ينظر لمصر على أنها الترياق المنقذ والمخلص لهم من كل العذابات والمعاناة والانعتاق من نير الاحتلال، مع التأكيد أنه ما من فلسطيني في قطاع غزة سواءً كان حماس أو فتح أو غير ذلك يفكر للحظة واحدة بإلحاق الضرر بالأمن القومي المصري أو حتى بأي مصري وهذا ليس من منبع العاطفة فأكثر من 70 عاماً من العلاقات والتواصل بين القطاع ومصر في العصر الحديث أكدت أن الفلسطيني في غزة حريص على مصر كحرصه على نفسه. ختاماً مع كل هذه المحبة والتلاحم والتأييد والتضامن كم هو جميل أن ينحو الإعلام المصري منحاً جديداً يضع فيه العلاقات مع غزة في بوتقتها الأصيلة ويتوقف عن تأجيج الرأي العام المصري ضد القطاع، ولا يأخذ كل المحبين والداعمين والمؤيدين والمناصرين والمتضامنين والمتلاحمين مع مصر بجريرة قلة قليلة (هذا إن وجدت) مناكفة لمصر، فليس عدلاً أن يؤخذ الطائعين بمرقة العصاة كما يقول المثل الشعبي، وكذلك قيام السلطات المصرية بتحسين أوضاع الفلسطينيين العاشقين لمصر ولشعب مصر من خلال إدخال التسهيلات الكفيلة برفع المعاناة عنهم أو تخفيفها إلى حد كبير وفي مقدمتها فتح معبر رفح ... ولنتذكر سوياً أن مصر ستبقى وتظل المظلة التي يحتمي بها قطاع غزة من نوائب الزمن. --------------------