أسئلة النهضة العربية وجدل العولمة الثقافية


أنباء الوطن -

 


من الضروري أن يتوجه العقل العربي نحو استيعاب أسس الحضارة الغربية والشروط التاريخية التي أنتجتها، ومن ثم توجيه الفعل باتجاه تحقيق تلك الشروط التاريخية وسلك الأسباب المؤدية إلى استنبات حداثة عربية.» المفكر العربي الدكتورعبد الله العروي/ شخصية جائزة الشيخ زايد الثقافية 2016-2017.
 طروحات النهضة العربية والقوى الاجتماعية – السياسية
 منذ بدايات عصر النهضة العربية وبعد أن طُرحت أسئلة النهضة العربية، وأهمها لماذا تقدمت أوروبا ؟ وما هي السبُل لتقدم العرب والمسلمين ؟، وقدمت الإجابات عليها آنذاك إنقسمت القوى الاجتماعية والسياسية في المجتمع العربي الإسلامي إلى تيارين عريضين، هما : تيار التحديث على النمط الأوروبي الذي ينادي باقتباس الحضارة الغربية ومؤسساتها، وقيمها العقلانية، مع احترام التراث ودوره التاريخي والاستفادة منه ؛ وتيارالتراث الذي يتمسك بتقاليد الماضي ومؤسساته ويرفض التحديث وضروراته. وقد بدأ هذا الانشطار الاجتماعي- السياسي منذ بدايات القرن التاسع عشر الميلادي، حين بدأت إرهاصات النهضة العربية، يرتبط بطروحات ثقافية، وتفسيرات دينية متصارعة، إذ طالبت مجموعات من المفكرين ورجال الدين ورجال السياسة والحكم بالتحديث واستعارة الأنماط الثقافية الأوروبية لتنظيم الجيش، وتحديث الاقتصاد والإدارة، والتعليم. وقد اقتنعت بذلك أعداد كبيرة من فئات المجتمع وساروا خلف هؤلاء التحديثيين. وفي المقابل دعت مجموعات أخرى من المفكرين ورجال الدين إلى ضرورة إغلاق الأبواب أمام الأنماط الثقافية الأوروبية، والمحافظة على العناصر الثقافية القديمة، والتفسيرات الدينية القديمة وهي في مجملها عثمانية النشأة والتوظيف. واقتنعت بذلك أعدادا أخرى من فئات المجتمع، وبخاصة بين الطبقات الفقيرة، والريفيين، والمتشددين دينيا، الذين ساروا خلف هؤلاء السلفيين، واقتدوا بتعاليمهم. ودعت مجموعة ثالثة إلى التوفيق بين الأنماط الثقافية الأوروبية المفيدة وبين عناصر منتقاة من تراث الماضي الذي يحوي عناصر سلبية غير مفيدة، إلى جانب عناصر أخرى إيجابية مفيدة لمواجهة متطلبات العصر. واقتنعت بذلك فئات أخرى من المجتمع وساروا خلف هؤلاء التوفيقيين، واقتدوا بتعاليمهم. وبشكل عام يلتقي هؤلاء التوفيقيين مع التحديثيين في رفضهم للتعصب والانغلاق، وطروحات الفكر التكفيري. ولا يزال هذا الانقسام الاجتماعي-السياسي موجودا يتعمق، ويتفرع إلى إنقسامات متتالية أنتجت ظاهرة الإسلام السياسي، وما تطور عنها من تنظيمات دينية تسعى للسلطة السياسية تحت مسميات مختلفة مثل القاعدة، أو داعش، وغيرهما.
 يرتبط بهاتين العمليتين المتعارضتين استمرار الانشطار الثقافي في المجتمع العربي بين ثقافة النخبة وثقافة الجماهير، وتكريس الانشطار في الهوية العربية بين هوية الجماهير التقليدية، والهويات الفرعية السلفية المعتدلة، والمتطرفة، والهوية الحديثة للنخب الاجتماعية وانتماءاتها المعولمة.
وعودة إلى طروحات عبد الله العروي المتداولة في كتبه، يلاحظ المثقف المتتبع أن الحداثة حاليا لم تعد غربية خالصة كما كان عليه الحال في بدايات القرن قبل الماضي، إذ أصبحت هذه الحداثة يابانية أيضا، وروسية، وكورية جنوبية، وماليزية، وصينية بعد أن استطاعت هذه البلدان دمج مكونات الحداثة الغربية مع جوهر حضاراتها لتنتج حداثات مبهرة خاصة بكل منها. وهو ما لم تنجح الحضارة العربية في إنجازه حتى الآن لأسباب لمّا تزل مدار جدل وخلاف، وتصارع.
 العولمة الثقافية وجدل الهوية
تٌستثمر العولمة وتقنياتها حاليا من قبل أصحاب هذه التيارات والهويات المتعارضة، لا سيّما المنظمات المتطرفة مثل القاعدة وداعش في التحشيد والتجنيد، وجمع الأموال ؛ وهم يستثمرون أيضا عديد من الفتاوي والتفسيرات الدينية المتشددة مجتزئينها عن سياقها السياسي والتاريخي في القرن الحادي عشر الميلادي حيث ظهرت غالبية هذه التفسيرات المتشددة. كما يتخذ دعاة هذه المنظمات من تأثيرات العولمة الثقافية في المجتمع العربي كبش فداء للهجوم على الحداثة، وعلى الحكومات، والنخب السياسية التي تعمل على تحديث الإجراءات، والاتجاهات والقيم، والمؤسسات لمواجة مشكلات المجتمع المادية، والمعيشية.
     الشباب وقيم التحديث، والمهارات الإليكترونية
بشكل عام يزداد تأثر الشباب العربي بقوى وأفكار، وقيم التحديث بعد إنتشار العولمة، لا سيمّا العولمة الثقافية وأدواتها الإعلامية حيث أصبحت الثقافة العربية حالياً، وبفضل التقنيات الرقمية، تقوم على جماهيرية الإعلام، وانفتاحه، وتعتمد الصورة لبث الرسالة الإعلامية وتنميط الإدراك من خلال وحدة الصورة، والخبر والمعلومة. فالمعلومة نفسها تبث مرات عديدة مدعّمة بالصور، والمؤثرات الصوتية المناسبة إلى فئات الجمهور لتحدث توحيداً وتنميطاً في مشاعره ومواقفه تجاه الحدث. كما ويزداد اعتياد الجمهور على الحوار، والنقاش، والاختلاف في الرأي في تناول القضية الواحدة – وهو ما دعا إليه عديد من السياسيين، وعديد من المفكرين العرب كذلك. وبرزت في هذا المجال قناة العربية وعدد من القنوات الفضائية الكويتية، والسعودية، والإماراتية، واللبنانية، والأردنية، والمصرية. وأصبحت تتنافس في ذلك – وبخاصة أنها ناطقة باللغة العربية – مع القنوات الفضائية الأوروبية والأمريكية العريقة المعروفة.
غير أن انفتاح الجماهير، والأجيال الجديدة على الإعلام العالمي ما يزال محدوداً بسبب عائق اللغة، وبسبب تكلفة اقتناء الدش، والريسيفر، واشتراك الإنترنت في عدد من البلدان العربية حيث تقوم هذه الجماهير بمشاهدة المحطات التلفزيونية الوطنية، وهي من خلال ذلك تتأثر أيضاً بقضايا العولمة الثقافية، ومواضيعها وتقنياتها. ذلك أن هذه المحطات الأرضية تعتمد تقنيات الفضائيات العالمية وأساليبها حتى تستطيع أن تحقق درجة من المنافسة، والمهنية تتناسب والمعايير العالمية. كما أن محتواها من البرامج في نسبة منه قد تصل إلى 25%، أو 30% عبارة عن برامج أمريكية، أو أوروبية مدبلجة أو مترجمة، بالإضافة إلى المسلسلات التركية، واللاتينية المدبلجة. كما أن تكلفة الاشتراك بالإنترنت لا تزال مرتفعة في عديد من البلدان العربية – كما أشير من قبل.
 لكن مع ذلك فإن الاحصاءات توضح أن نسبة الوصولية إلى الإنترنت، أو انتشار الإنترنت ( مقاسا بعدد مستخدمي الإنترنت إلى مجموع السكان ) في البلدان العربية في ازدياد مستمر يصل عام 2015 بحسب بيانات تقرير اقتصاد المعرفة العربي 2015-2016 إلى 66.2% في بلدان الخليج العربي، وإلى 52.4% في بلاد الشام، وإلى 45.2% في بلدان شمال أفريقيا، وإلى 27.2% في اليمن والسودان. وقدر العدد الكلي للسكان في البلدان العربية في هذا العام ب 375.8 مليون نسمة، ويصل العدد في نهاية عام 2017 الحالي إلى 400 مليون نسمة.
كذلك فإن أعداد المشتركين في خدمة الموبايل مع توفير خدمة الجيلين الثالث والرابع تزيد عن عدد السكان في البلدان العربية بشكل عام حيث تصل هذه النسبة إلى 110.2% من مجموع السكان العرب عام 2015. وترتفع هذه النسبة بشكل كبير في بلدان الخليج العربي لتصل إلى 170.2% من مجموع السكان، وتصل إلى 155% في بلاد الشام، وإلى 120.9% في بلدان شمال أفريقيا، وإلى 70% في اليمن والسودان بحسب بيانات تقرير اقتصاد المعرفة العربي 32015-2015. وتوفر هذه الهواتف الذكية إمكانية مريحة للاتصال بالإنترنت، والإتصال والتواصل أينما وجد المستخدم لا سيما مع انتشار خدمة الإنترنت عريض النطاق.
وأثر هذا الانتشار المتزايد للهواتف الذكية سلبيا على نسبة انتشار أجهزة الكمبيوتر الشخصية في منازل الأردنيين والمواطنين العرب، حيث كانت نسبة انتشار واستخدام أجهزة الكمبيوتر لدى الأردنيين تصل إلى 49% عام 2013، وإلى 57% عام 2012، تراجعت هذه النسبة إلى 32.7% عام 2016 بحسب بيانات وزارة الإتصالات وتكنولوجيا المعلومات الأردنية .
 الانفتاح الإعلامي وتقنيات العولمة الثقافية
الانفتاح الإعلامي كبير، وملحوظ بين الطبقات الميسورة، والشباب، والحكومات ومؤسسات الأعمال والإنتاج، وهو يقوم على مشاهدة الفضائيات، وبخاصة العربية منها بشكل كثيف، واستخدام الإنترنت، ووسائل التواصل الإجتماعي وبخاصة الفيسبوك، والواتساب في المراسلات، والتعامل والعلاقات الشخصية. ويزداد تنميط الاتصال بين هذه الطبقات والفئات، ويوحّد ذلك بالتالي طريقة تفسير هذه الطبقات والفئات للأمور وتناولها للقضايا السياسية والاجتماعية، ومواقفها من هذه القضايا. ويرتبط بكل عملية من هاتين العمليتين مجموعات كبيرة من المنظمات الأهلية التي تمّول وتدار من قبل الأهالي أنفسهم لتعبر عن أفكارهم، ومبادئهم، وتبشر بها بين الجماهير بموافقة ضمنية أو صريحة من الدولة، وتلجأ إلى استخدام وسائل التواصل الإجتماعي لا سيمّا الفيس بوك، وتويتر، وإنستجرام، والواتساب. وتستفيد هذه المنظمات بما في ذلك تلك التابعة للتنظيمات المتطرفة من أدوات العولمة وتقنياتها فتلجأ إلى استخدام الإنترنت، والموبايل، والكمبيوتر والبرمجيات، ووسائل التواصل الإجتماعي في محاولاتها تحقيق أهدافها. لكن الملاحظ أن عملية تحديث الثقافة العربية، والسياسات المنبثقة عنها، والمنظمات التي تتبنى هذا التحديث بدعم من الحكومات العربية هي التي تسود بشكل عام. كما تجد هذه العملية الدعم الكبير أيضاً من المثقفين الليبراليين ورجال الدين المعتدلين، والحركات النسوية العربية والإسلامية بالرغم من أن هذه العملية تقاوم من قبل المثقفين التقليديين، والسلفيين، والمنظمات الأهلية التي ينشئونها، إضافة إلى الجماعات، والتنظيمات المتطرفة.
mkhamesh@ju.edu.jo