خرج ولم يعد


أنباء الوطن -

يخطف الزمن عمرك على غفلة منك دون أن تدري، وربما كنت تدري، وتضحك أنت عليك .. وتكابر!
تستفيق فجأة.. لتلتقي بذاتك التي لم تعد ذاتك، ووجهك الذي ما عاد كما كان، وجهك ..
تفاجأ أن طائرتك الورقية التي كنت تحلق معها بضحكاتك الطفولية، قطعوا خيطها.. وحلّقت بآمالك وأحلامك البريئة إلى نهايات المدى، وتركتك ها هنا وحدك.
ترى كل شيء فجأة قد تغير .. وحده الحزن ظلّ بكامل أناقته وعنفوانه وحضوره .. كل شيء تبدل، إلا ملوحة دمعاتك اللاتي أبين النضوب واغتيال الذاكرة..
تعلم يقيناً في داخلك، أن الذي ولّى، ولّى .. ولن يعود كما كان يوماً وكنت.. وتدرك، أن السفينة التي غادرت موانئ عمرك لن ترجع، والنوارس التي رفرفت بأجنحتها صوب الغياب، راحت، وخلّفت وراءها شطآن قلبك صحراء قاحلة ..
تسير وحدك .. عار ٍ كما ولدتك أمك، في مدينة الفضيحة .. تحاول إشعال النور، في شوارع العتمة القبيحة !
تتذكر مع رشفة فنجان قهوتك الصباحي شيئًا - كانوا - يسمونه «الابتسامة» .. تجهد دون تمكن ذاكرتك التي أطلقت عليها ألف رصاصة، تذكر آخر مرة تَموضَعت فيها شفتيك بضحكة عفوية صافية من نبع قلبك السلسبيل، وتعجز ..
تحاول اقتناص لحظة دهشة، من بين ركام خيبات عمرك، كتلك التي أمسكت فيها ذات يوم، أصابع حبيبة دوّخت الكون بأهداب عينيها، فأطرقت جبينها حياءً من نظراتك العطشى، وأفقدتك وعيك ..
تحاول دوزنة نبضات قلبك، إعادة «ضبطه المصنعي»، كما كان يوماً، إنسياً.. بشرياً، بعيداً عن مدن الوشاية والنفاق والنميمة، وغابات البشر .. لتكتشف أن قلبك الذي كان قلبك، خرج ولم يعد!
توقفك الحياة عند ذكريات مضت .. أغانيك القديمة، كتبك التي خبأت بين صفحاتها رسائلك الغرامية الأولى، حديقة مزويّة في حارة طواها الزمان، تشابكت فيها ذات يوم أصابع عاشقين لأول مرة!
تجلس ذات مساء معك .. تشاهد فيلماً حزيناً قديماً، عايشته في الصبا وأدمعك .. كم ظل عالقاً على أهداب عمرك ثلاثين عاماً من الحنين ..
تعيد مشاهدته بذات النشوة الأولى .. تنساب منك ذات الدمعات اللاتي فصلن بينك وبين عمرك الذي تسرّب من بين أصابعك وخدعك، سنوات عجاف ثلاثون، كأنهن الأمس واللحظة!
تستحضر طفولتك، صباك .. تجلسك حدك، تتذكر حينما كنت فتياً ترتوي العشق من قلب تلوّع مع كل رفّة رمش من أهداب حبيبتك التي رحلت وأحرقت خلفها سفن العناوين ..
تعتزل الدنيا لحظة، الناس، المقاهي، مواقع التواصل، مكالماتك الهاتفية المزعجة، أحاديث السياسة المقرفة، تعتزل حتى ظلّك .. محاولاً العثور عليك بين متاهات نفسك، لتكتشف حال عودتك إلى واقعك، أن كل شيء قد تغير، كل شيء .. حتى أنت!