الناقد غسان عبد الخالق يعاين الذات والموضوع في أدب السيرة العربية
عن الدار الأهلية للنشر والتوزيع في عمّان، صدر للأكاديمي والقاص والناقد الأردني الدكتور غسان عبد الخالق كتاب بعنوان (الذات والموضوع؛ دراسات تطبيقية في أدب السيرة العربية). والكتاب يقع في 240 صفحة من القطع المتوسط، جاء في مقدمة وتمهيد وخمسة فصول وخاتمة.
الناقد عبد الخالق أهدى كتابه الأحدث (إلى غاستون باشلار الذي ذكّرنا بأن الموضوع لا يوجد، إلا إذا وجدت الذات الفاعلة التي تتأمّله وتفكّر فيه)، وحاول عبر صفحات الكتاب أن يعاين أدب السيرة الذاتية العربية من منظور فلسفي حيث قال: (وخلاصة ما أود تأكيده للقارئ بخصوص جدل الذات والموضوع، يتمثّل في اعتقادي بأن الموضوع يشكل الذات إلى حد بعيد، كما أن الذات مؤهّلة لتشكيل الموضوع إلى حد بعيد كذلك، وبأن الذات مؤهلة لتأمل ذاتها بوصفها موضوعًا مناظرًا للواقع، وبأنها مؤهلة أيضًا لإحراز معرفتها الخاصة بالواقع الموضوعي عبر الإحساس به أو تكوين انطباعاتها المستقلة عنه، دون معرفة علمية أو فلسفية سابقة. وإن كنت لا أدعي إمكانية ارتفاع هذه المعرفة (الظاهراتية) إلى مستوى المعرفة المختبرية، إلا أنني أعتقد بضرورة الاعتراف بحقها في الوجود المعرفي. وهو ما حرصت على الالتزام به في هذا الكتاب).
وفي المقدمة التي استهل بها عبد الخالق كتابه، عبّر عن أبرز ما يواجهه الباحث على صعيد دراسة وتحليل أدب السيرة الذاتية فقال: (أقسى ما يمكن لدارس السيرة الذاتية أن يُقدم عليه: تصدير كتابه بمقدمة أكاديمية رصينة وقورة متجهمة! وخاصة إذا كان قد أنضى قلمه في لوم معظم كتّاب السيرة الذاتية العربية، لأنهم لم يبذلوا ما يكفي من الجهد ليكونوا أكثر بساطة وأكثر بوحًا وأكثر مكاشفة. فكيف إذا كان هذا الدارس لم يدّخر وسعًا أيضًا لإعمال أدوات جهازه المفاهيمي والنقدي، فراح يشرّح النماذج التي وقع عليها اختياره تشريحًا لا هوادة فيه؛ وصفًا وتحليلاً وتركيبًا، ناهيك بما حشده من مصادر ومراجع وهوامش؟!
وقد آثر غسان عبد الخالق أن يكون مخلصًا لتاريخ علاقته بأدب السيرة الذاتية، وأن يتدرج في الاشتباك مع هذا الأدب؛ فمهد للأبحاث التي ضمها الكتاب بتمهيد أطلق عليه عنوان
(تمرينات في مقاربة أدب السيرة الذاتية) ويشتمل على مقاربات أوّلية لعدد من السير الذاتية التي مثّلت له شكلاً من أشكال الاستطلاع أو (الدوران الحذر حول الحمى)، لأن كل من جرّب الاشتباك مع أدب السيرة الذاتية، تلمّس حقيقة أنه يتفرّد بالإيحاء لك – أثناء القراء وبعدها، بأنك تملك العديد من المفاهيم والمقولات والأدوات التي يمكن أن تفكك من خلالها مستوياته ودلالاته، لكنه فور الشروع في الكتابة، سرعان ما يسحب البساط من تحت قدميك، وإذا بالسيرة التي كنت تظنها كتابًا مفتوحًا، نص يمور بعلاقات ورموز ومعان مركّبة وغامضة، لا تسلم نفسها للدارس، إلا بعد كثير من المداورة والمراودة!
لم تتمثل الصعوبة كما يقول غسان عبد الخالق، في مقاربة أدب السيرة الذاتية بوجه عام، بل تمثّلت في اختيار النماذج التي تصلح لاحتمال المفاهيم والمقولات النقدية التي راكمها طوال سنوات، وكان عليه أخيرًا أن يجد النموذج النسوي المناظر لفدوى طوقان التي تتحدّر من عائلة فلسطينية أرستقراطية، وكان في مقدورها أن تلوذ باسم عائلتها لتضمن حياة زوجية تقليدية مطمئنة، لكنها اختارت التمرّد ثقافيًا على سلطة العائلة بوصفها المعادل الموضوعي لسطوة المجتمع التقاليد، واضطرت لارتداء بعض الأقنعة التاريخية حتى أسفرت عن ذاتها وعن إبداعها. وقد تمثّل هذا النموذج النسوي المناظر لفدوى طوقان في إشراقة حامد التي تتحدّر من عائلة سودانية فقيرة جدًا، وكان في مقدورها أن توظّف تفوّقها العلمي وتميزها الثقافي لتضمن حياة أكاديمية واجتماعية وسياسية هادئة، لكنها اختارت التمرّد ثقافيًا على السلطة السياسية بوصفها المعادل الموضوعي لمنظومة الصّور النمطية المرسّخة تاريخيًا، واضطرت لمكابدة الفقر والجوع والبرد والتمييز في صقيع الشمال الأوروبي، حتى أفصحت عن ذاتها وعن إبداعها.
أما على الصعيد الذكوري، فقد كان البحث أكثر مشقَّة، لأن اختيار الباحث وقع أولاً على العقّاد الذي يتحدّر من عائلة مصرية ريفيّة محافظة متوسّطة الحال. وكان في مقدوره أن يستعصم بالإرث الديني لعائلته المصرية ويضمن لنفسه وظيفة حكومية مستقرّة، لكنه اختار التمرّد على الروتين العائلي بوصفه معادلاً موضوعيًا لنمط التفكير الوئيد المسالم، وآثر الانخراط في عالم الصحافة والأحزاب، واضطر للقيام بالعديد من المناورات السياسية، حتى استقر به الحال كاتبًا وناقدًا ومفكّرًا شديد البأس قوي الشكيمة وكثير الاعتداد بنفسه. وقد غامر الباحث – على حد تعبيره- باتخاذ محمد شكري مناظرًا نموذجًا له، فهو يتحدّر من عائلة مغربية بائسة
ومفكّكة، واصطلى بنيران التشرّد والصّعلكة حتى كاد يلتصق بمجتمع القاع، لكنه آثر - عبر الإصرار على استئناف تعليمه- التمرّد على واقعه الهامشي المنبوذ، ولاذ بالتعليم والإعلام حتى تمكّن من تحقيق ذاته، عبر سلسلة من السِّير الذاتية التي تجاوزت الحدود الجغرافية للمغرب والمشرق العربيين، وبلغت العديد من عواصم الثقافة والفن في العالم.
وبعد أن رفد المؤلف فصول كتابه الأربعة بفصل خامس عنوانه (الطابق المسحور؛ مختارات من أدب السيرة العربية)، لخص إضافته في هذا الكتاب بالقول: إن المخاتلة التي ينطوي عليها أدب السيرة الذاتية، تفسر اتجاه معظم الدارسين إلى الكتابة (عن أدب السيرة الذاتية) وليس (في أدب السيرة الذاتية)، حيث أن كل من شوقي ضيف وإحسان عباس وعبد العزيز شرف لم يتركوا زيادة لمستزيد على صعيد الإجابة عن سؤال (ماذا نعرف عن السيرة الذاتية؟؛ فقد تصدى الأول لتأريخ السيرة الذاتية العربية بما لا يزيد عليه، وتصدى الثاني لمقاربة الأسئلة النقدية الرئيسة التي يطرحها أدب السيرة الذاتية العربية بما لا يزيد عليه، وتصدى الثالث لمقاربة الوظائف الإعلامية والاتصالية لأدب السيرة الذاتية بما لا مزيد عليه أيضًا، لكن السؤال الرئيسي: (كيف نقرأ أدب السيرة الذاتية من خلال نماذج تطبيقية) هو السؤال الذي لم أدّخر وسعًا للإجابة عنه عبر أربعة نماذج تطبيقية متباينة.