ازمة البنوك الغربية وتداعياتها
معالي د. محمد ابو حمور ( وزير المالية الاسبق )
يؤدي الجهاز المصرفي دوراً محورياً في الاقتصاد، وافلاس بنك ما لا يشبه افلاس شركة عادية، فالاثر المترتب على ذلك يمتد ليشمل شريحة واسعة من القطاعات الاقتصادية المرتبطة بهذا البنك وهذا ما يفسر الازمات التي تنتج عادة عن الاضطرابات التي يشهدها القطاع المصرفي، وتظهر حالات الافلاس نتيجة لتراجع جودة الاصول مثل القروض المشكوك في تحصيلها أو تراجع أسعار الاسهم والسندات في محفظة البنك، كما تحدث ايضاً نتيجة لسياسات وقرارات خاطئة تتخذها الادارات التنفيذية وتؤدي الى زعزعة ثقة المستثمرين والمودعين، خاصة عندما ينتشر الهلع ويبدأ المودعون بسحب ودائعهم ويعجز البنك عن تلبية طلباتهم، وهذا ما حصل في حالة بنك سيليكون فالي الامريكي وبنوك اخرى مؤخراً، فالبنك المذكور لم يعمل على تنويع استثماراته بل استخدم نسبة كبيرة من الاموال في سندات الخزينة الامريكية طويلة الاجل، والتي انخفضت أسعارها بسبب الارتفاعات المتتالية في نسبة الفائدة، خاصة وان جزء كبير من الاموال التي تم استثمارها عبارة عن ودائع قصيرة الاجل تعود لشركات التكنولوجيا في وادي السيليكون.
يخضع الجهاز المصرفي عادة لرقابة البنوك المركزية التي تحرص على سلامة الاوضاع المالية للمصارف، وهذا يذكرنا بقرارات سابقة للفدرالي الامريكي الذي خفض من متطلبات الرقابة على المصارف في عهد الرئيس السابق، ما أدى الى تراجع القيود المتعلقة بتركيز استثمارات البنك وكيفية استخدام السيولة المتوفرة لديه، أضافة لذلك فالاوضاع الاقتصادية في دولة ما تؤثر على أداء الجهاز المصرفي، فالاقتصاد العالمي والاقتصاد الامريكي تسوده حالة من الترقب بسبب الاوضاع الجيوسياسية العالمية والتضخم الجامح والرفع المتتالي لاسعار الفائدة.
ومن خلال بعض المؤشرات والملامح الاساسية للأزمة الراهنة يمكن أن نستنتج بعض التطورات المستقبلية، فهي كما يلاحظ لم تشمل حتى الان البنوك الكبرى واقتصرت على سيليكون فالي وبنكين اخرين مع احتمالية ان تمتد لثلاث أو أربع بنوك صغيرة اخرى، ايضاً من الواضح أن الحكومة الامريكية كانت حريصة على التعامل مع هذه الازمة بطريقة مختلفة حيث أعلنت عن ضمان كافة الودائع بغض النظر عن قيمتها، وهذا الاجراء سوف يبث الطمأنينة لدى المودعين في البنوك الاخرى وبالتالي تراجع حالة الهلع والذعر لديهم، وبالرغم من التراجع الذي شهدته أسعار أسهم البنوك والسندات الا أن هذا التراجع غير مرشح للاستمرار، كما أن الفدرالي الامريكي خفض من وتيرة رفع أسعار الفائدة خلال اجتماعه الاخير واكتفى بربع نقطة مئوية، ومن المهم أيضاً ان لا نستهين بقدرة الاقتصاد الامريكي ومرونته للمساهمة في تجاوز أثر هذه الازمة، وعلى الارجح فان أثر هذه الازمة سيكون مؤقتاً ولن يؤثر بشكل جوهري على الاقتصاد الامريكي أو العالمي، ولكن هذا لا يقلل من أثر العوامل الاخرى مثل التضخم الجامح والرفع المتتالي لأسعار الفائدة والحرب الروسية الاوكرانية والعقوبات المفروضة بسببها، وهذه كلها عوامل قد يكون لها أثار سلبية خلال العام الحالي.
أوضح الاعلان الرسمي الصادر عن البنك المركزي الاردني انه “لا يوجد أي تداعيات سلبية على القطاع المصرفي في الاردن نتيجة لما حدث في بعض البنوك الامريكية، حيث أن البنوك الأردنية لا تملك أي ودائع أو توظيفات أو معاملات مالية مع تلك البنوك”، وفي ضوء الظروف الموضوعية الحالية من المستبعد أن يتأثر القطاع المصرفي الاردني، خاصة وأن البنك المركزي الاردني يتولى عبر دوائره ونشاطاته المختلفة التحقق من سلامة الأوضاع المالية للبنوك ومراقبتها والإشراف عليها بما يكفل سلامة مراكزها المالية وحماية حقوق المودعين والمساهمين، كما يعمل على وضع القواعد والضوابط اللازمة لقيام البنوك بالتعامل مع عملائها بطريقة عادلة وشفافة بما يعزز تنافسيتها ويساهم في حمايتها من المخاطر.
ويشار بهذا الخصوص الى أن القطاع المصرفي في الأردن يعتبر ثاني أفضل الدول استقرارا، من بين 165 دولة، بعد لوكسمبورغ التي جاءت في المرتبة الأولى، استنادا إلى بيانات صادرة عن صندوق النقد الدولي، وذلك وفقاً لما أشارت له ورقة سياسات صادرة عن منتدى الإستراتيجيات الأردني أواخر العام الماضي، وبينت الورقة بأن الأسباب الكامنة وراء متانة القطاع المصرفي في الأردن يعود إلى مستوى الربحية، ونسبة كفاية رأس المال، ومستوى الانحراف المعياري للعائد على الأصول.
كما تشير البيانات الرسمية الى أن البنوك الأردنية تتمتع بمؤشرات مالية صحية وسليمة فنسبة كفاية رأس المال للبنوك الأردنية تتجاوز 17% متفوقة على النسبة المطلوبة عالمياً، كما أن نسبة الديون غير العاملة منخفضة جدا وتغطية المخصصات للديون غير العاملة مرتفعة، هذا بالاضافة الى أن البنك المركزي يجري عمليات اختبار للأوضاع الضاغطة للقطاع المصرفي بشكل دوري، وتؤكد جميع نتائج الاختبارات أن البنوك قادرة على تحمل المخاطر والصدمات، هذا بالاضافة الى أن أن البنوك تتسم بالتنويع الكبير في توظيفاتها واستثماراتها ومصادر أموالها مما يزيد من قوة ومتانة القطاع المصرفي.
بعد انفجار الازمات ينحصر الحديث عن الحلول في تقليص واحتواء الاثر المترتب عليها واتخاذ اجراءات تضمن عدم السماح بانتشار الهلع والخوف وفقدان الثقة، ولكن الحلول الحقيقية هي تلك الاجراءات المسبقة التي لا تسمح بحدوث هذه الازمات، وهي تبدأ بالادارة التنفيذية التي تستطيع أن تبني ادارة مخاطر كفوءة وأنظمة رقابة داخلية فاعلة، وأن تنوع استثماراتها وتحافظ على جودة قروضها بما يضمن سلامة العمليات والقدرة على مواجهة اي مصاعب ومفاجات، كما أن الاجراءات الرقابية والتعليمات التي يضعها البنك المركزي، تمثل خط دفاع أساسي يضمن عدم حدوث الازمات ويساهم في الحفاظ على متانة وكفاءة الجهاز المصرفي، مع ملاحظة الأهمية الخاصة للاطار التشريعي الذي في ظله تمارس مختلف الجهات صلاحياتها، كما أن الحرص على سلامة واستقرار الاقتصاد الكلي ونموه المستدام يمثل أيضاً عاملاً اضافياً في الحفاظ على سلامة المؤسسات المصرفية. وللحديث بقية…