نور على نور

هالة جمال سلوم
في أوقات الضوضاء والفوضى، حيث يعلو ضجيج الروح على ضجيج المحيط، وتؤرق مضاجعنا ثرثرة النفس الصامته التي ما برحت تهدأ صبح مساء، وانشغال الفكر قبل البدن، في زمن البحث عن السعادة التي طالما باتت أشبه بلغز كنز دفين، لا يعرف مكانه أحد، في سنين يغرق فيها البشر برحلة بحث مستمرة، عالقين بدوامة القلق الدائم، والبحث المتواصل، والإنتظار، إنتظار الشيء واللاشيء، أفقدهم هذا رغد العيش، وسكينة النفس، فاتستنزف أرواحهم واستهلك قوتهم، وأفنى وقتهم، فلا قيمة للوقت، باتت الساعة تلو الساعة وكأنها دقائق معدودة، والشهر تلو الشهر بسرعة جنونية، بل وكأينه بين العام والعام بضع أيام فقط!
وبروح مرهقة، وفكر مثقل بضنك العيش، ينعم الله علينا بأيام معدودات، أيام لشفاء الجسد والروح، تداوى فيها ندوب أرواحنا، ويُربَت فيه على أكتافنا إحتواءً وسكينةً، ليالٍ نحيي بها قلوب أضعفتها الأماني، وحجرتها الذنوب، حيث السكن والسكينة، والتقرب إلى الله والتضرع له سبحانه، والندم على التقصير، أيام نمحو بها ذنوب أثقلت كواهلنا، فشغلت فكرنا وأنّبت ضمائرنا وخارت لها قوانا، ثلاثين ليلة للتداوي، وإعادة التوازن النفسي بل ثلاثين فرصة للبدأ من جديد.
نعم، أيام قليلة تفصلنا عن شهر المغفرة والرحمة، شهر رمضان المبارك، شهر مجاهدة النفس للملذات بأنواعها، عبادة فيه الإرادة القوية على ما اعتادت عليه النفس، شهر تُرمم فيه ما أفسدته الأيام في علاقة العبد بربه، حيث الدعاء والرجاء والثناء والتقرب من الله.
إقتربت أصوات المساجد إيذاناً لصلاة التروايح، واقتربت ترانيم النقشبندي في ساعة الغروب، واجتماع العائلة حول مائدة الإفطار، ينتظرون فرحين أذان المغرب، ها قد أوشك – المسحِّر- من ضبط إيقاع طبله، لإيقاظ النائمين لتناول سحورهم، واقترب سماع صوت الصبيان في الشارع فرحين في ليلة إعلان غرة شهر الصيام، وخروج الناس للأسواق لشراء بعض حاجياتهم، ليس لغرض الشراء فحسب، بل لمشاركة الناس فرحة ليلة الصيام، فتتزين الطرقات، وتنير المصابيح المنازل ابتهاجاً بشهر الصيام المبارك، شهر بكل شهور العام.
أياما معدودات، فلنحسن استغلالها، ولنحترم قدسيتها وحرمتها، لنعقد نية التجديد، ونطلب التوبة والمفغرة من لدن عفو كريم، ونرجو العون من الله بالثبات على الصيام والقيام، وعلى فعل كل طاعة، نتقرب فيها إلى الله، ونحط بها ذنب وقع، فنطهر قلوبنا من دنس الذنوب، فإذا صلح القلب صلحت الجوارح، ولا نتردد بالاقبال على الله مهما بلغت ذنوبنا، فالله يغفر الذنوب جميعاً.
الله نرجو أن يبلغنا قدوم هذا الشهر الفضيل، وأن يكرمنا ويعيننا على صيامه وقيامه، ويبلغنا ليلة القدر فيه، ويمتعنا ومن نحب فيه، وينير قلوبنا وأرواحنا بنور لياليه المباركة، وكل عام وأنتم بخير.