سعادة الخبيزة
أنباء الوطن -
عاطف أبو حجر
حين يشتدّ البرد، لا تبحث الذاكرة عن الفروة والملابس الثقيلة بقدر ما تبحث عن المعنى. ومع دخول مربعانية الشتاء، حيث تنهض الأرض من صمتها، وتبدأ بإرسال إشارات لمن يعرفها، يعود الإنسان إلى علاقته الأولى مع الأرض، تلك العلاقة التي لا تقوم على الوفرة، بل على الحكمة، ولا على الترف، بل على الاكتفاء. في هذا الفصل، لا يكون الشتاء مجرد حالة طقس، بل امتحان دفء، ودرسًا قديمًا في كيف نحتمي ببعضنا وبما تجود به الأرض.
مربعانية الشتاء هي الزمن الذي تتباطأ فيه الأيام، وتطول الليالي، وتقترب البيوت من بعضها. حول صوبات الحطب، تتقاطع الحكايات، وتُستعاد الوجوه، وتُطهى الأكلات التي لا تظهر إلا حين يستدعيها البرد. فالمطبخ الشتوي في الأردن ليس رفاهًا موسميًا، بل ذاكرة جمعية، تحفظ أسماءنا كما تحفظ نكهاتنا.
وفي قلب هذا المشهد، تعود الأعشاب البرية إلى الواجهة، لا كزينة للطبيعة، بل كرسالة صامتة من الأرض. تنبت بعد أول المطر، بلا دعوة ولا جهد، كأنها تعرف أن الناس بحاجة إليها. يجوبها الكبار والصغار، لا بدافع الحاجة فقط، بل بدافع الطمأنينة التي تمنحها هذه الطقوس القديمة.
ومن بين تلك الأعشاب، تقف الخبيزة متواضعة في شكلها، عظيمة في معناها. نبتة خضراء لا تدّعي شيئًا، لكنها تحمل تاريخًا من الصبر والنجاة. أطعمت الفقراء دون أن تُحرجهم، وجمعت الأغنياء حول بساطتها، فكانت طعام الجميع بلا استثناء. لم تدخل الخبيزة يومًا من باب الفخامة، لكنها دخلت القلوب من باب الصدق.
أتذكر أمي وهي تُعدّها، لا كطبخة، بل كطقس. كانت تعرف متى تُقطف، ومتى تُغسل، ومتى تُترك على النار لتأخذ وقتها دون استعجال. لم تكن تقيس المكونات، بل تقيس الرائحة، وتعرف النضج من الصوت واللون. كانت تقول إن الخبيزة لا تحب العجلة، وإن النار الهادئة تُخرج خيرها كله.
وحين تُقدَّم، ساخنة وبسيطة، مع رغيف خبز وزيت زيتون، لا تحتاج إلى تفسير. لقمة واحدة كفيلة بأن تشرح معنى الشتاء، ومعنى القناعة، ومعنى أن تكون ابن هذه الأرض. فهي ليست مجرد طبق يُشبع الجسد، بل وجبة تُعيد ترتيب الروح.
الخبيزة أكثر من نبات؛ إنها درس قديم في الاكتفاء، وتذكير بأن الأرض لا تخذل من يفهم لغتها. وفي مربعانية الشتاء، حين يشتد البرد وتضيق الأيام، نكتشف أن السعادة والقناعة قد تكون بأكلة مطبوخة على نار هادئة، وتُقدَّم في طبق يعرفه القلب قبل المعدة. نعم، أيها السادة، إنها سعادة الخبيزة.

