« لعبة الكراسي « ثقافة الصِغر لعنةٌ في الكبِر ..


أنباء الوطن -

 

؟!كتب : يوسف الحلو

 

لا أدري لماذا نُحّملُ الذاكرة أكثر من قدرتها على التحمل ونُفشِلُ كل محاولة تقوم بها للنسيان ؟! وهي الحاضنة لمخزون أسرارنا المُتحملة لكلِ حماقاتنا فأصبحت بعضا من تلك اللحظات الجميلة من أعمارنا التي طِرنا بها فرحا صرنا نتمنى لو أنها تُمحى من سجل الذاكرة في تناقض غريب بالشعور معها عندما نكتشف ذلك الربط المُحْكم بين لَعِب الصِغار قديما ولعبْ الكبار واقعا.
قديما وحاضرا ومستقبلا كنا وسنبقى نُعّلِمُ أبنائنا تلك اللعبة المشهورة التي كنا نستمتع بها طلبة صغارا ونفرح بها بل كنا نطالب أن نلعبها في حصص الفراغ -وما أكثرالفراغ في حياتنا- بلا ملل فَمضتْ السنين مٌسرعة لتصبح هي نفس اللعبة التي أفسدت علينا حياتنا عندما كبرنا وأدركنا أي مصيبة تلك التي حلت علينا بسبب..» لعبة الكراسي «, أو لعنة الكراسي التي تعجز عن بطلان سحرها كل التعويذات.
سبعة أو ثمانية من الكراسي قل العدد أو كَثُر إلا أنه كان يعتمد على عدد المقاعد الفارغة التي كنا نجدها في الغرف الصفية أو تلك التي كنا نختلسها من غرفة المعلمين بحرص شديد حتى لا يرانا أحدا منهم ! فنكون بذلك قد تعدينا على قُدسية وهيبة المعلم- آنذاك - إن تجرأنا فقط بأخذ أي شيء يخصُه, ثم تُجْمَع الكراسي على شكل دائرة فيختار المعلم أو المعلمة الطلبة الأكثر قربا لهم ليكونوا من أوائل اللاعبين على أن يكون عددهم أقل من عدد الكراسي الموجودة بلاعب فيما ينتظر الباقيين دورهم.
ثم يُطلب من كل لاعب أن يجلس على أقرب كرسي يجده عند سماعه الصافرة لأن الخاسر سيكون من لا يحصل على كرسي وسيخرج من اللعبة, يبدأ الطّواف حول الكراسي بتشديد التركيز على حاستين فقط هما السمع والنظر وإهمال باقي الحواس, يبدأ اللف والدوران والهدف هو « الكرسي « تُسْمَع الصافرة فيتمسك اللاعب بأقرب كرسي فيتشبت به وليسقط حوله من يسقط ويتأذى فالمهم هو الحصول على مكان فوق الكرسي ومنعه عن الآخر حتى ذلك الذي تجاور في مقعد الدراسة زميلا وصديقا.
يخرج الخاسر الذي بقي واقفا دون كرسي وفي قلبه إنكسار وقد تلوّن وجهه بألوان الإحراج على فقدانه للكرسي وكُرهٌ قد بدأ ينموا كجنين في رحم المشاعر على ذلك الذي حرمه وأبعده بالقوة عنه, فتُسمَعُ تنهدات الغضب ويستمر اللعب,يُستبعد في كل مرة لاعبا ويُزاح كرسيا فتبقى نفس المعادلة - تًمسَكْ بالكرسي وإلا فسَوف تكون خارج المَلعب - حتى يبقى كرسيا واحد ولاعبين إثنين فقط, وعلى كل من لعب هذه اللعبة صغيرا عليه تذكر حجم الشراسة المفرطة المستخدمة للحصول على الكرسي والفوز به.
في « كوكب اليابان « الذي يبعد عن الأرض ملايين السنين من ضوء الإنسانية تُلعَبُ نفس اللعبة, نعم نفس اللعبة بعدد الكراسي والمشاركين ولكنها بقوانين أرقى وبأهداف أسمى فيُوجه الطلبة أن الغاية هنا هي أن لا يبقى أحدا منهم واقفا بلا كرسيا عند الصافرة وإلا فإنهم جميعا خاسرون فنجدهم عند سماع الصافرة يسارعون لترك مكانا بجانب كل واحد منهم حتى يجلس عليه من قد يبقى واقفا فتجد إثنان أو ربما ثلاثة يحتضنون بعضهم البعض على نفس الكرسي حتى لا يسقط أحدهم أو يبقى واقفا بلا كرسيا فتكون النتيجة خسارةً للجميع.. عجيب أمركم أيها اليابانيون!
أيها السادة ,» لعبة الكراسي « ليست سوى لعنة لترسيخ ثقافة خطيرة نعلمها لأبنائنا منذ الصِغر ليبدعوا بها عند الكبر - ويبدوا أن الكثير قد أبدع - فيصبح الهدف لكل من يشارك في هذه اللعبة هو الكرسي في كل مراحل تصنيعه بأدق تفاصيله ومنذ إفتتاحه بأول مسمار يُدّقُ في أحشائه الى سيلان الغراء في تجاويف مفاصله, وحتى في تفاصيل نلك المخدة الصغيرة التي توضع في الخلف وأسفل الظهر لتعطي شعورا مُدغدِغا يساعد على الإسترخاء والتمدد بسبب ملامسة الظهر للكرسي الذي يمنع ترك أي فجوة وفرصة في الإبتعاد عنه!
أما النتيجة العملية لهذه اللعبة بعد عمر طويل أو قصير فلم يعد الأمر يُحسب بعدد السنين ما دام في الصافرة هواء تَقرعُ به طبول تخلفها, النتيجة ستكون أن اليابان -قد تكون- أنتجت من هذه اللعبة فاسدا واحدا وكرسيا في السنة, أما عندنا ففي كل سنة سيتم تفصيل عشرة من الفاسدين إن لم يكن العدد أكبر, بل أننا سوف نمتاز عن الأخوة في اليابان الشقيق أن مصنع الكراسي موجود لدينا وما يزال يُنتِج وبمواصفات عالية الجودة والمقاييس كراسي بمختلف الأحجام وفقا لطول الأيدي وحجم الصَّدر وعرض القفا.
أما أنتِ أيتها الذاكرة المُحَملةُ فوق طاقتها فنعتذر منك إن تعاطينا حقنة من الزهايمر بعد أن صار مطلبا ومرهما نضمد به أحلام عِلمُ الصِغر التي نُقِشت وأصبحت كوابيسا من الحجر .يوسف الحلو – 20 أيار 2016